ثلاثة وثلاثون يوماً، سطّر خلالها أسياد الأرض وأبناؤها، أروع البطولات والملاحم، وهم على يقين تامٍّ بالنصر، منذ «الطلقة الأولى». مفاجآتٌ وإنجازات، لوت أذرع العدو، ومنعته من تحقيق أهدافه، حتى اشتدّ ارتباكه، باحثاً عن بصيص نصر، ولو معنوي، يسترجع فيه هيبة جيشه، قبل أن يدخل قرار وقف الأعمال الحربية حيِّز التنفيذ. يومها، كان القرار 1701 الذي تبناه مجلس الأمن بالإجماع، في 11 آب 2006، قد أصبح باللون الأزرق (الصيغة النهائية)، لكن«الكابينت»(مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر)، أمر الجيش بالتحرك في حملة «الدقيقة تسعين»، مطلقاً مغامرة برية مدتها «60 ساعة»، عُرفت باسم «تغيير اتجاه 11». إلا أن قيادة المقاومة ومجاهديها كانوا لها بالمرصاد

قبيل شروع قوات ومدرعات «الفرقة 162» (الفولاذية) في جيش الاحتلال، بتنفيذ العملية البرية الواسعة، انطلقت سيارة المقاوم الثلاثيني «فداء» (اسمه الحركي)، عند الثالثة من بعد ظهر الخميس 10 آب، شرقاً، باتجاه بلدة الغندورية (قضاء بنت جبيل)، حيث أقلّ معه بالإضافة إلى ابن شقيقته (20 عاماً)، مقاومَيْن آخرين، بهدف تعزيز البلدة عسكرياً، إلى جانب المجموعات المنتشرة داخلها، والتصدي لأي تقدم أو إنزال إسرائيلي محتمل، كانت قد رجحت حصوله «الاستخبارات العسكرية» في المقاومة، على إثر تحركات مريبة، قام بها أفراد من «كتيبة الهندسة 605»، بعد ظهر الأربعاء 9 آب، في «بستان جميل» في وادي الحجير.
مهمة الوصول إلى الغندورية لم تكن سهلة، فالقصف العنيف والمركز، استمرّ على طول الطريق. تعرضت سيارة «فداء» لقذيفة، أخفقت في إصابتها، بين بلدتي ديركيفا وقلاويه. عندها، وبعد ركن السيارة، ترجل منها المقاومون الأربعة، بهدف الاحتماء من القصف، وتنقلوا بين بيوت عدة في قلاويه، دام ذلك ساعة واحدة. آخر المنازل التي مكثوا فيها، تعرض لغارة جوية، دمرته، فور مغادرتهم إياه باتجاه برج قلاويه، حيث تكرر الأمر نفسه معهم هناك. مساءً، وصلت المجموعة إلى «جبانة» الغندورية، وفور نزولها من السيارة، استُهدفت بصاروخ موجه من طائرة استطلاع. حينها، كان القصف التمهيدي، بل والتدميري على البلدة، قد بدأ، وتدريجاً، استهدف تقريباً كافة منازلها. سياسة «الأرض المحروقة» لاحت في الأفق، ما أنبأ «غرفة العمليات» باقتراب موعد الإنزال أو التقدم البري، فرُفعَت الجاهزية لدى المقاومين، إلى أعلى مستوياتها.

موفاز لأولمرت: «ماذا ستقول للأرامل»؟
منذ أن صوّت «مجلس الوزراء المصغَّر» يوم الأربعاء في 9 آب على الموافقة المؤجلة، على العملية البرية الواسعة، في جنوب لبنان، بناءً على توصية هيئة الأركان، بتوسيع المرحلة الثانية من الحملة البرية، حتى عمق 12 كلم، وذلك في سبيل إنهاء الحرب بضربة ساحقة، والوصول إلى مصب الليطاني في القاسمية تحديداً، قبل صباح الإنثين 14 آب، موعد «وقف الأعمال الحربية»، ليصبح جنوب النهر تحت سيطرتهم بالكامل من أجل جعله لاحقاً بعهدة قوة دولية تحت الفصل السابع، استعدت «الفرقة 162» مرتين، للتقدم في الليلتين التاليتين، وفي المرتين، أُمرت بالبقاء مكانها، عند اللحظة الأخيرة. كان هذا نتاج المشاورات والمشادات الكلامية، لناحية الأهداف المرجوة من العملية، توقيتها، ومدتها، وغيرها... والتي حصلت بين أبرز قادة العدو: رئيس الحكومة إيهود أولمرت، وزير الدفاع عمير بيرتس، رئيس الأركان دان حالوتس، رئيس «قسم العمليات» غادي أيزنكوت، قائد «المنطقة الشمالية» أودي آدم، وقائد «الفرقة 162» غاي تسور، وآخرين... سيد الأسئلة، كان الذي وجهه وزير المواصلات شاؤول موفاز إلى رئيس الحكومة أولمرت قبيل المعركة: «ماذا ستقول للأرامل؟».
الكابتن إيفانس ج.، إسرائيلي من أصل إرلندي، (بطاقة عسكرية إرلندية تعود إلى ما قبل العام 2000)

في هذه الأثناء، ومنذ مساء الخميس 10 آب، كانت الاستعدادات «المتاحة والممكنة» في الغندورية، على أهبتها. فالبلدة التي دخلها العدو في اجتياحي 1978 و1982، إضافة إلى اجتياح الست ساعات عام 1986، هي نفسها التي انتفضت على ماضيها المرير، يوم استغل المقاومون والأهالي، في 21 أيار 2000، ذكرى وفاة امرأة فيها، وانطلقوا منها فاتحين، نحو بلدة القنطرة، لتشكل بذلك، أولى «بوابات التحرير»، وتضع، إلى جانب أخواتها، المسمار الأخير في نعش «زمن الهزائم». جاهزية المقاومين في الغندورية كانت مرتفعة، انطلاقاً من روحيتهم العالية، رغم أن عديدهم لم يتجاوز الـ«20 فرداً». مجموعات تعزيز عدة، لم تتمكن من دخول البلدة، نظراً للقصف الجنوني. توزع «المجاهدون» على ثلاث مجموعات، انتشرت في أماكن التقدم المحتملة. وبعد زراعة الألغام الإفرادية، جهز كل مقاوم حفرة خاصة به، قرب جذوع شجر الزيتون، بالاستفادة من«الوسائل البدائية».

حضور شخصي لأحد مرافقي «السيد»
في هذه الأثناء، كانت «قيادة المقاومة»، قد أعطت التعليمات، لتعزيز المنظومة الدفاعية، حول وادي الحجير، ومنه نحو البحر، مروراً بالغندورية، جرى زرع عبوات إضافية، في ممرات التقدم الإلزامية، وتعززت أعداد القبضات ضد الدروع، أضف إلى رفع مستوى جهوزية المدفعية الأرضية...
صبيحة الجمعة 11 آب، اشتد القصف «الإسرائيلي» على الغندورية، حتى باتت أسقف المنازل وجدرانها، تتطاير أمام عيون المقاومين، خصوصاً تلك المطلة والمشرفة على وادي الحجير من جهة، وعلى مزرعة الطويري من جهة أخرى. أغلب المقاومين تعرضوا لإصابات طفيفة، جراء الشظايا والحجارة المتطايرة. ورغم أن إصابة «فداء» بكتفه كانت بالغة، إلا أنه ضمدها وطلب من «ابن شقيقته» تركه وحيداً، بعد أن أوصله الأخير إلى حفرة إفرادية، ليرتاح، وساعده في حجب أشعة الشمس عنه، لكنه أصرّ على البقاء في مكان قريب منه.
في هذه الأثناء، لم تنقطع محاولات القيادة لإرسال مجموعات تعزيز إلى الغندورية. إحدى السيارات التي استطاعت الوصول، تعرضت للقصف عند مدخل البلدة، كان يستقلها مقاومان نجَوَا بأعجوبة. الأول استطاع الالتحاق برفاقه، أما الثاني، فقد أضل الطريق باتجاه وادي الحجير، وهو الأسير خضر زيدان (حُرِّر لاحقاً في عملية الرضوان عام 2008). سيارة أخرى استطاعت الوصول، كان بداخلها ثلاثة مقاومين، من ضمنهم أحد «المرافقين» المعروفين للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي كان لحضوره الشخصي في الميدان، دور كبير، في ثبات معنويات «المجاهدين» المرتفعة.

«الإوز في مرمى الصياد»
بعد مماطلة دامت 48 ساعة، صدّق كل من رئيس حكومة العدو ووزير دفاعه، ابتداءً من مساء الجمعة 11 آب، على انطلاق عملية «تغيير اتجاه 11»، المفتقرة إلى عامل المفاجأة والمحكومة بالتردد في اتخاذ القرار. بدأت مهمة «عبور وادي الحجير» أو كما سمّاها العدو «عبور السلوقي». من وادي هونين، انطلقت «الفرقة 162»، وفي مقدمها كان «اللواء المدرع 401» (لجام الفولاذ)، وفي طليعته «الكتيبة 9»، التي شكلت «السرية L» رأس حربتها. اتجهت هذه القوات البرية لتنفيذ «اختراق شرطي» (التسمية التقنية)، عبر وادي الحجير «المعبر الضروري» إلى بلدة الغندورية، ومنها إلى منطقة جويا (شرقي صور). بعد إدخال تعزيزات إضافية، تقدمت الفرقة في مسالك غير مكشوفة، وشقت طرقات ترابية، تحاشياً لأية عبوات مجهزة سابقاً، من قبل المقاومة. عبرت من«الطريق العام» بين العديسة ورب ثلاثين، إلى الطيبة، ومنها إلى خربة كساف، المحيصبات، القنطرة، عدشيت القصير، وصولاً إلى «خلة براك» (شمال غرب عدشيت القصير)، حيث شقت طريقاً منها نحو «بستان جميل»، الذي وصلته عند الساعة 10:45 من صباح السبت 12 آب.
تقدم الجيش الإسرائيلي، على طول هذا المحور، لم يكن مجرد نزهة، فـ«كمين النار» الذي أعدته المقاومة حول وادي الحجير كان مكتملاً. حين كان «اللواء النخبوي 401» يشق طريقه باتجاه وادي الحجير، كانت المدرعات تتهاوى، وعلى رأسها ميركافا 4 «أسطورة الصناعة الإسرائيلية». كانت الرمايات تتوالى من مرابض ضد الدروع، في قرى شمال الليطاني، خصوصاً تلك التي أغفلها جيش العدو تماماً، خلال إعداد خطة العملية، نظراً لعدم توصل «أجهزته الاستخبارية» إلى معلومات، تفيد بامتلاك المقاومة صواريخ روسية متطورة ضد الدروع، من نوع «كورنيت»، يصل مداها إلى نحو 5.5 كيلومترات. أبرز «الرماة» ضد الدروع كان متمركزاً في بلدة يحمر/ الشقيف، هو المقاوم علي صالح (المعروف باسم «بلال عدشيت»)، الذي دمر وعطل أكثر من 15 مدرعة «إسرائيلية»، قبل أن يستهدفه صاروخ موجه، ليستشهد بعدها متأثراً بجراحه، ومستحقاً عن جدارة، لقب «قاهر الميركافا». خلاصة القول، مشهدية أظهرت مدرعات العدو، مثل «الإوز في مرمى الصياد»، طبقاً لتعبير صحيفة «معاريف» في آب 2006.

الحمّالات لا تكفي لنقل قتلى العدو وجرحاه
رغم الخسائر التي مُنيت بها «الفرقة 162»، وفي ظل ضغط الوقت، الناتج من الارتجال، أصرّ العدو على الاستمرار، في محاولة عبثية، للوصول قبل «صفارة النهاية». وبعد تقدم مدرعاته، وجنوده المنهكين، إلى«بستان جميل»، جرت رمايتهم من مربض، في مرتفع واقع بين بلدتي فرون والغندورية، فأصيبت دبابتان. عندها، قام سلاح الجو «الإسرائيلي» بقصف مركز وكثيف، هادفاً إلى إسكات النيران المضادة، وتأمين متابعة التقدم، ما سهّل انتقال «الكتيبة 9» إلى «عين عيديب»، ومنها توجهت نحو الغرب، على الطريق الترابية، المنحرفة شمالاً باتجاه الغندورية. كان هذا الطريق يبعد مئات الأمتار غرباً، عن الطريق الأول، الذي خطط له «لواء الناحال»، والواقع بين فرون والغندورية. يرجع العدو الخطأ، إلى أن الاجتماع الأخير بشأن طريق التحرك، بين قائد الفرقة وقادة الألوية، حصل ليل الأربعاء، داخل خندق قرب القنطرة، وكانت الخوذ على رؤوس المجتمعين.
عند الساعة 11 من ظهر يوم السبت 12 آب، وأثناء متابعة التقدم، ووفقاً لما ورد في كتاب «بيت العنكبوت»، لـكل من عاموس هرئيل وايفي يستاخروف، أصيبت دبابة قائد «الكتية 9» المقدم افي ديفرين، بثلاثة صواريخ. واصل الرتل تقدمه تحت القصف الصاروخي، وفي أعلى الطريق اصطدم في بيت انهار، نتيجة لقصف سابق من قبل سلاح الجو، فسد امتداد الطريق، وعند محاولة الالتفاف نحو الطريق الأول، انفجرت عبوة تحت الدبابة الثالثة، قتلت أربعة من أفراد طاقمها «بعد أن فعلت فيها كما يفعل المخرز الساخن بقالب الزبدة»، كما جاء الوصف على لسان قائد عسكري رفيع في جيش العدو. ثم تدهورت الدبابة التي أرادت مساعدتها، وتفككت جنازيرها، فتوجه إليها راجلاً، النقيب شاي بيرنشتاين، قائد «السرية L»، للمساعدة في إصلاح الجنزير، وعندما كان الطاقم على وشك الانتهاء من إصلاحها، سقط صاروخان، فركض قائد السرية عائداً إلى دبابته، للتأكد من أن الطاقم يحدد مصادر القصف، ثم أصابت الصواريخ دبابتين ثانيتين، إحداهما كانت دبابة بيرنشتاين، الذي قتل على الفور، إلى جانب اثنين من أفراد طاقمه هما عيدو غربوفسكي وعمشا مشولامي، وآخرين... في ظل سقوط عشرات المصابين، حتى إنه لم يكن هناك ما يكفي من الحمالات لحملهم، لأن بعضهم احترق في داخل الدبابات.
في خضمّ هذا التقدم البري، نفّذ العدو إنزالاً جوياً وُصف بـ «الأضخم في تاريخ إسرائيل»، وفق ما جاء على لسان قائد رفيع في الجيش الإسرائيلي بتاريخ 13 آب، شاركت فيه نحو 50 مروحية نقلت أكثر من ألفي جندي، جلهم من «فرقة ايزينبرغ»، إلى منطقة العمليات، من مشروع الطيبة، إلى «رويسة الطيارات» (شرق زبقين)، إلى «طيرهرما ومريمين وضهر العاصي» (غرب ياطر)، ورشاف، والسوسة (جنوب غرب حاريص)... هدف ذلك إلى السيطرة على الجبال القريبة من كفرا وياطر، والتلال الواقعة في منطقة تبنين (شمال بنت جبيل). الإنزال شمل أيضاً قرى القصير (مشرفة على وادي الحجير من جهة الشمال)، وفرون (القسم الجنوبي)، والغندورية (الطرف الشمالي)، المحاذية لضفاف نهر الليطاني. في المحصلة، وصلت إلى الغندورية دبابة إسرائيلية «واحدة»، عند الثالثة من فجر الأحد في 13 آب، وارتبطت بـ«الكتيبة 931» من الناحال، الموجودة مسبقاً في البلدة. إلا أنه مساء الأحد، وبعد صولات اشتباك واسعة، جاء الأمر للفرقة بالتوقف في المكان، وانتظار «وقف الأعمال الحربية».

المواجهة البطولية
في أحياء بلدة الغندورية، لم يكن وضع القوات «الإسرائيلية» مختلفاً عن خارجها. قرابة منتصف ليل الجمعة 12 آب، أنصت «فداء» ورفاقه إلى هدير الطائرات المروحية، ولاحظوا كثرتها، وأدركوا أن الإنزال المحتمل بات وشيكاً. وبما أن مهمة ثلاث كتائب من«لواء الناحال» و«الكتيبة 13 غولاني»، هي وصول بعضها راجلاً، وبعضها بالمروحيات، إلى الجانب الغربي من وادي الحجير، لتأخذ مواقع عالية في فرون والغندورية، تؤمن من خلالها للمدرعات. قام العدو بإنزال كتيبتي «قوات نخبة»، في أربع نقاط محيطة بالبلدة، هي مزرعة الطويري، خلة النجاصة، تلة غرب فرون، والخلة بين فرون والغندورية. قُدر عديد القوات بأكثر من «600 فرد»، ما دلّ على أن احتلال الغندورية، بالنسبة إلى «إسرائيل»، كان أمراً محسوماً. رفع المقاومون مستوى جاهزيتهم، في معابر تقدم المشاة المحتملة. وبعد انتشار جنود التأمين في التلال المشرفة على البلدة، حصل التقدم التدريجي، وفور وصول طلائعه إلى بيوت البلدة، من الجهة الشمالية، بدأت تنفجر الألغام الإفرادية، ما دفع المقاومين إلى فتح النيران، وخوض اشتباكات مع جنود العدو، من مسافات قريبة. استمرت الجولة الأولى من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وحتى العاشرة من صباح السبت، ثم تجددت عند الظهيرة، وكان ختامها من المساء وحتى فجر الأحد 13/ آب، كذلك لم يخلُ الأمر من استمرار بعض المناوشات، بشكل متقطع، حتى بعد وقف الأعمال الحربية بساعات قليلة.

غاي كوفر، مواليد 03-12-1985، من مستوطنة هود هشارون (بطاقة عسكرية إسرائيلية)

انغمس جنود «الناحال» في معارك «من بيت إلى بيت»، وأعطوا اهتماماً قليلاً لحركة الدبابات خلفهم، ما حرفهم عن مهمتهم الأساسية، التي تقتضي التأمين لعبور مدرعات «اللواء 401»، باتجاه الغندورية. أشغلهم، بل وشتّتهم، توزع نيران المقاومين، رغم قلتهم، ومع اشتداد العبوات وزخات الرصاص، يقول «فداء»، الذي استمر بالقتال رغم الجراح، «كنا نحقق إصابات واضحة، يعلو على إثرها صراخ الصهاينة وعويلهم، ولشدة قربهم منا، كاد أكثر من واحد منهم يقع في الأسر». ارتفعت الإصابات في صفوف العدو، ما دفعه إلى تحويل أحد المنازل، القريبة من ملعب الغندورية، إلى مستشفى ميداني، «كانت المعدات الطبية وآثار الدماء داخله واضحة، أضف إلى بعض الوثائق والمستندات المهمة التي خلفوها وراءهم»، يروي أحد قادة المقاومة، ويضيف أنه «بعد نداءات متكررة طوال النهار، لم يجرؤ أي طيار على الهبوط بمروحيته حتى حلول الليل، حيث تكرر هبوط مروحية في ملعب البلدة، لسحب المصابين، بعد معالجتهم الأولية ميدانياً».

الغندورية تكسر العدو ولا تنكسر
منذ فجر السبت، كان الإسناد الناري في المقاومة، قد باشر القصف العنيف على محاور تقدم المشاة، وأماكن تمركزهم عند أطراف الغندورية، ما بعث الطمأنينة في قلوب المقاومين. كان يتولى تصحيح هذه الرمايات، المقاوم راني بزي (جريح وأسير سابق في معتقل الخيام)، حيث كان متموضعاً قرب خزان البلدة، بعد مشاركته في زرع العبوات الناسفة، وقبل استشهاده في المواجهة نفسها، إلى جانب خمسة مقاومين آخرين، هم عماد قدوح، شادي وفادي عباس (شقيقان)، مصطفى ركين، وحسن مرعي (وحيد أهله). جميعهم استشهدوا أثناء تسطيرهم البطولات، بعد تعرضهم للقنص من قبل جنود التأمين الصهاينة، في التلال المشرفة. المفارقة أن كل إصاباتهم كانت «جبهوية» بالصدر، وأن أحد هؤلاء الشهداء كان ابن شقيقة «فداء»، الذي استمر بالقتال إلى جانبه، محاولاً حمايته، حتى استشهد.
مشهدية وادي الحجير أظهرت مدرعات العدو، مثل «الإوّز في مرمى الصياد»، طبقاً لصحيفة «معاريف»


مع اشتداد المواجهة، في ظل نفاذ الذخيرة والتموين، وبهدف نقل الجرحى ذوي الإصابات الخطرة، اضطر بعض المقاومين إلى التراجع تكتيكياً، باتجاه بلدة برج قلاويه. هذا لم يمنع من بقي من الاستمرار في بثّ الرعب والهلع، في قلوب قادة وجنود العدو، حيث أكملوا القتال، مع قدرة مناورة عالية. المفاجئ في الأمر، أن هؤلاء كانوا ثلاثة جرحى، «فداء» واحد منهم، وغذائهم ثمر الزيتون ومياه موحلة وجدت في برميل ورشة قيد الإنجاز. صباح الاثنين 14/ آب، لم يعرف المقاومون صراحة بوقف الأعمال الحربية، فالجهاز اللاسلكي والمذياع اللذان كانا في جيب «فداء» تعطلا، من نزف الدماء، عند إصابته. عوامل عديدة، أشعرتهم بأن الحرب قد انتهت، أحدها توقف إسناد المقاومة الناري، عن الرماية، ثم ازدادوا يقيناً، عند وصول مجموعة من المقاومين، حضرت من بلدة برج قلاويه. حينها شعر «فداء» بنشاط وقوة غير عاديين، ولم يتذكر إصابته، حتى نُقِل إلى المستشفى.
في البر، كما في الجو، محاولات العدو تحقيق أهدافه، باءت بالفشل، وبعد أن تيقن من عجز مشاته ونخبها، ودباباته وتدريعها عن الاستمرار، قرر إيقاف العملية البرية. خرج الصهاينة من الغندورية، مهزومين، ونقلتهم المروحيات عبر الطويري، بشكل تدريجي، وقد استمر ذلك حتى مساء الاثنين. تقهقروا، تاركين خلفهم الدمار، ومغرقين القرى بالقنابل العنقودية. في هذه المحاولة البائسة، وعلى إثر «المفاجآت الساحقة»، من تدمير المدرعات إلى المواجهات البرية، التي عرقلت تحقيق هدف «تغيير اتجاه 11»، اعترف العدو بنحو «34 قتيلاً» وبعشرات المدرعات ومئات الإصابات، منها نحو «16 قتيلاً» وأكثر من «20 مدرعة» وعشرات المصابين، في وادي الحجير، وفي المواجهة البطولية، في الغندورية. تلك البلدة، رغم أنها شكلت «نقطة إنذار مبكر»، حيث إن خط الدفاع الصلب، كان في القرى الواقعة خلفها، إلا أنها كسرت عصا العدو، ولم تنكسر.



«من أجل ماذا قُتل الجنود؟»
ما عجزت عنه «إسرائيل» في الحرب، لم تستطع تحقيقه بالسياسة، بل ضمته إلى سلسلة هزائمها، وآخرها في «تغيير اتجاه 11»، حيث ظهر لاحقاً في أوساط الكيان، أن الخروج إلى العملية البرية الواسعة، خطأ جسيم. أولاً، لم يصل جيش العدو، في معظم محاور التقدم، إلى الخطوط الطموحة التي رسمها لفرقه، الغندورية أطفأت آخر أحلامه. ثانياً، لم يقلص قصف «الكاتيوشا» كما أراد، والمصداق الأبرز، إطلاق المقاومة «250 صاروخاً» في الـ«24 ساعة» الأخيرة على «إسرائيل». ثالثاً والأهم، كان إنجازاً من نوع آخر، عندما تمكنت المقاومة من إسقاط مروحية «يسعور» في 13/ آب، في منطقة مريمين (غرب ياطر)، والتي وصف مشهد سقوطها «المراسل العسكري القديم» رون بن يشاي، بأنه كان «مذهلاً ومثيراً للقشعريرة». لم يستطع جيش «إسرائيل»، من خلال عمليته الأخيرة، ترميم الردع، ولا إنقاذ حكومة أولمرت سياسياً، ولو بـ«صورة نصر» على نهر الليطاني، فلا يزال يتردد صدى سؤال «من أجل ماذا قُتل الجنود؟».


«فلتستمر الحرب»
إنجازات المقاومة في الميدان انعكست تلقائياً في ميدان فريق «المقاومة السياسية». فالرئيس نبيه بري، كان على رأس الفريق، ينسق «لحظوياً» مع السيد حسن نصر الله، من خلال الرسائل المتبادلة عبر «الخليلين». إحدى هذه الرسائل، جاءت في الأيام الأخيرة للحرب، أي في سياق «تغيير اتجاه 11»، حيث أرسل الوزير علي حسن خليل، خبراً للحاج حسين خليل، عبر مسؤول حماية الأخير، مفاده أن الرئيس بري يريد رؤية «الحاج» للضرورة. انتقل الأخير على الفور إلى مقر إقامة الرئيس بري، كانت الساعة حينها تشير إلى الثانية عشرة من «منتصف تلك الليلة». في اللقاء عبّر رئيس المجلس النيابي عن قلقه المتأتي من ضغط النزوح المتزايد، وسوء أحوال المدنيين، والحرب الإعلامية المرافقة للإنزالات الضخمة في الجنوب، واستفسر عن بعض الأجواء على الجبهات وفي الطرقات. على عجل عاد «الحاج» إلى الضاحية، ونقل عبر «الهاتف الداخلي»، رسالة «الرئيس» إلى «السيد»، الذي أجابه بدوره بأن «لا داعي للقلق»، وحمّله رسالة إلى «الأخ الأكبر» في طياتها مجريات الميدان، من «مجازر الدبابات» وتفاصيلها، عددها، وأماكن استهدافها... إلى استمرار المقاومين بالقتال «على الحدود»، وتحديداً في «عيتا الشعب»، وعجز العدو عن التقدم. أصغى الرئيس بري جيداً إلى التفاصيل، ثم وقف قائلاً: «هذه خبرية جيدة».
شكل «فريق التفاوض» جبهة استراتيجية في الدفاع عن المقاومة، محبطاً وكابحاً الجهود الأميركية، حتى أرغمها على الانطلاق من صيغة «تفاهم نيسان»، بعد أن هدفت إلى تحقيق مطالب متنوعة، تصبّ في مصلحة «إسرائيل». كان أهمها تغيير مهمة «قوات اليونيفيل»، من قوات «فصل سلام»، إلى قوات «فرض سلام» (تحت الفصل السابع). كان الأمر محسوماً لدى «المقاومة السياسية» برفض الموضوع، رغم الضغوط والمؤامرات الداخلية، قبل الدولية، المتوائمة مع المطلب الأميركي، والتي تجلت بتأكيد أحد الوفود الأميركية للرئيس نبيه بري، بما أبلغ به من الرئيس فؤاد السنيورة «حكومة لبنان تقبل بأن تشكل اليونيفيل قوة ردع وتحت الفصل السابع»، أضف إلى إصرار السنيورة في «اللقاء الشهير» مع الحاج حسين خليل، بحضور الرئيس بري في عين التينة، على إدراج بند يسمح بإعطاء «الجيش اللبناني» و«قوات اليونيفيل»، حق مداهمة بيوت المدنيين في الجنوب، في سبيل البحث عن السلاح، مهدداً بلسان حال العدو «إذا لم تقبلوا بهذا البند، فإن إسرائيل مستعدة لمواصلة الحرب وتوسيعها». كان جواب المقاومة واضحاً: «فلتستمر الحرب ولا نقبل أن تداهم بيوت أهل الجنوب»، قالها الحاج حسين خليل.