باستثناء الارتفاع الطفيف الذي طرأ على أسعار النفط، لم يستدعِ إعلان السعودية تعليق مرور شحناتها عبر باب المندب ردوداً دولية من النوع الذي كانت تتطلع إليه الرياض. ولئن كان من المبكر الجزم بنوعية الارتدادات التي ستخلّفها الخطوة السعودية، إلا أن إتيانها بمفعول عكسي يبدو وارداً، خصوصاً أن «أنصار الله» تواصل تعزيز أوراقها عبر توسيعها بنك الأهداف العسكرية، في وقت يُظهر الجانبان الأممي والأوروبي ميلاً متزايداً نحو فكفكة العقد والشروع في تسويات جزئية يمكن أن توطّئ لحل شامل.لم تكد تمرّ ساعات على استهداف القوات البحرية اليمنية بارجة سعودية في البحر الأحمر، حتى جاءت الضربة التالية مُستهدِفةً هذه المرة مطار أبو ظبي الدولي بطائرة مسيّرة جديدة من طراز «صماد 3». ضربة تمثّل تطوراً نوعياً في مسار عمليات الجيش واللجان، وتفتح الباب على مرحلة مختلفة ستكون الرياض وأبو ظبي مضطرتين فيها إلى إعادة حساباتهما. لكن عملية المراجعة هذه، والتي بدأت منذ الفشل الذريع الذي مُني به الهجوم على مدينة الحديدة، لا تمنع السعودية والإمارات من تجريب البدائل كافة، وآخرها إعلان التوقف عن تصدير النفط عبر باب المندب، علّ ذلك يكبح اندفاعة بعض الدول نحو الانفتاح على «أنصار الله»، ويقنع «المجتمع الدولي» بأولوية توسيع حجم مشاركته في حرب اليمن «حمايةً للملاحة الدولية». وفي الانتظار، يواصل المبعوث الأممي، مارتن غريفيث، محاولاته إحداث خرق في الجدار، من دون أن يبدو إلى الآن أنه قد تمكن بالفعل من إحراز تقدم ذي أهمية.
وأزاحت القوات الجوية، أمس، الستار عن منظومة جديدة من الطائرات المسيرة بعيدة المدى تحمل اسم «صماد 3». ودشّنت الطائرة الجديدة عملياتها بشنّها غارات على مطار أبو ظبي الدولي «أدت إلى توقف حركة الملاحة فيه» بحسب ما نقلت وكالة «سبأ» الرسمية التابعة لحكومة الإنقاذ عن مصدر في سلاح الجو المسير. ووصف المصدر العملية بأنها «إنجاز استراتيجي وبداية مرحلة ردع جديدة»، عاداً إياها «نقطة تحول في مسار مواجهة العدو» نحو «الوصول إلى مواقع الإمارات الاستراتيجية الحيوية». واعترفت الإمارات، من جهتها، بوقوع «حادثة» في مطار أبو ظبي، لكنها عزتها إلى «مركبة لنقل الإمدادات في ساحة المطار التابعة لمبنى المسافرين رقم 1»، قائلةً إن الواقعة «لم تؤثر في سير العمليات التشغيلية للمطار أو جدول الرحلات الجوية».
جاء استهداف مطار أبو ظبي في سياق عمليات نوعية مكثّفة منذ مطلع تموز


وتتمثل أهمية هجوم الأمس في عنصرين: أولهما أنه يُدخل أبو ظبي مجدداً في دائرة العمليات العابِرة للحدود، وذلك للمرة الأولى منذ قرابة 7 أشهر بعد إعلان القوات المشتركة في الثالث من كانون الأول/ ديسمبر 2017 استهداف مفاعل «براكة» النووي في العاصمة الإماراتية بصاروخ مجنّح من طراز «كروز». وثانيهما أنه يظهر مدى التطور النوعي والسريع في قدرات الـ«درونز» اليمنية، وفي الوقت نفسه عجز دول «التحالف» على رغم ما تملكه من إمكانات تكنولوجية وعسكرية عن رصدها وتتبعها وإحباط غاراتها قبل وقوعها. وفي هذا تكرار لما حدث قبل أقل من عشرة أيام (18 تموز/ يوليو الجاري) عندما أغارت «صماد 2» على منشأة لشركة النفط السعودية «أرامكو» في الرياض، وأيضاً لما شهده مطلع الشهر الجاري من استهداف لمقر قيادة «التحالف» في مدينة عدن بطائرة مسيرة من طراز «قاصف».
مسار زمني تخلله، صباح أول من أمس، هجوم للقوات البحرية على البارجة السعودية، «الدمام»، التي «انتهكت مياه اليمن الإقليمية وكانت تنفذ أعمالاً عدائية» بحسب بيان صادر عن تلك القوات. ولئن دلّ هذا التعاقب في العمليات على شيء، فإنما على أن سلطات صنعاء تحاول الإفادة من اللحظة التي أعقبت انكسار القوات الموالية لـ«التحالف» على أعتاب مدينة الحديدة إلى أقصى حد ممكن. ذلك أن إعلان الجانب الإماراتي، حينها، «تعليق العمليات إفساحاً في المجال أمام الجهود الأممية» وازاه انكشاف حالة التضعضع والتخبط المسيطرة على الميليشيات التابعة لأبو ظبي، وتَبِعه حراك ديبلوماسي ملحوظ نحو العاصمة صنعاء تُوّج بزيارة السفير الفرنسي لدى اليمن كريستيان تيستو إليها. ومن هنا، يأتي تكثيف الهجمات النوعية ضد السعودية والإمارات في محاولة لمضاعفة الشعور بالخيبة الذي ساد أروقتهما بعد فشل هجوم الحديدة، وبالتالي إفهامهما بأن لا جدوى من المراهنة على الخيار العسكري، ومن جهة ثانية تزخيم الجو الأممي والأوروبي المائل نحو وقف الحرب والشروع في الترتيب لتسوية سياسية. ولعلّ هذه الرسالة هي ما كان يلمح إليه رئيس «اللجنة الثورية العليا»، محمد علي الحوثي، في تعليقه على غارة أبو ظبي، بقوله إن «عمليات الطيران المسير ستفتح الطريق أمام عملية سياسية تؤدي لإحلال السلام باليمن».
في المقابل، لا تزال الرياض وأبو ظبي تراهنان على خطط بديلة، قد تكون آخر ما تبقى لديهما لتحقيق إنجاز يمكن بواسطته الخروج من مستنقع الحرب. ولم يكن إعلان السعودية، ليل الأربعاء - الخميس، تعليق مرور شحنات النفط عبر باب المندب، إلا واحداً من تجليات تلك الرهانات. يؤكد التقدير المتقدم معطيين: أولهما أن ثمة أنباء متعددة المصادر، في مقدمها بيان قيادة القوات الجوية، تخالف الإعلان السعودي الرسمي عن أن ما تم استهدافه في البحر الأحمر صباح الأربعاء هو ناقلتا نفط وليس بارجة حربية عادية. وثانيهما أن السعودية كان بإمكانها «تركيب فيلم» من هذا النوع منذ زمن، خصوصاً أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف بوارج حربية (أو حتى ناقلات نفط بحسب مزاعم الرياض) تابعة لها من قبل «أنصار الله» (أعلنت المملكة في شهر نيسان/ أبريل الماضي استهداف ناقلة نفط سعودية في البحر الأحمر)، لكن الرياض تبدو اليوم أكثر حاجة إلى هذه الخطوة بعدما استنفدت كل الخيارات الممكنة لإخضاع «أنصار الله» وبالتالي إنهاء الحرب.
تأمل السلطات السعودية بأن يدفع إعلانها في شأن باب المندب، الداعمين الغربيين لتحالف العدوان، إلى رفع مستوى مساندتهم لـ«التحالف» بما يتيح استحصال مكسب استراتيجي، لا سيما بعدما لمس الإماراتيون خلال جولتهم الاستطلاعية الأخيرة في واشنطن فتوراً أميركياً وتردداً في تغطية أي عملية جديدة على الساحل الغربي. إلا أن خطوتها هذه قد تأتي بمفعول عكسي لسببين: أولاً) أنها لا تخدم الأجندة الأميركية القاضية بالتعويض سريعاً عن أي نقص في الإمدادات ناجم عن العقوبات على إيران من المخزون السعودي، وهذا ما سيعقّده تعليق مرور الإمدادات عبر باب المندب كونه سيرفع تكاليف الشحن إلى أوروبا والولايات المتحدة بسبب زيادة المسافات. وثانياً) أن رفع السعودية لافتة «تهدد الملاحة الدولية» في وقت تؤكد «أنصار الله» أن «باب المندب آمن للحركة التجارية» على حد تعبير محمد علي الحوثي أمس، من شأنه عرقلة المساعي الأممية الجارية لتفكيك عقد الحرب، والتي يحاول مارتن غريفيث، بدعم أوروبي لم يعد خفياً، الانطلاق بها من ملفات جزئية كإدارة ميناء الحديدة وقضية أسرى الحرب، تمهيداً للوصول إلى الحل الشامل.
هذه المحاولات عاودت الظهور، أمس، مع الزيارة الجديدة للمبعوث الأممي إلى صنعاء حيث التقى قائد «أنصار الله» عبد الملك الحوثي، ورئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط، ومسؤولين آخرين. وبدا لافتاً، في خلال الزيارة، ما نقلته وكالة «سبأ» عن الحوثي من تشديد على «أهمية البدء بالخطوات ذات الطابع الإنساني لأهميتها في المساعدة على الحل». لكن زعيم «أنصار الله» نبّه إلى أن «المشكلة التي تعرقل المفاوضات هي تعنت قوى العدوان»، لافتاً إلى أن «توافر الإرادة والمصداقية والجدية أمر لا بد منه لنجاح أي جولة مشاورات سياسية». وهي عناصر لا يبدو حتى اللحظة أنها متوافرة لدى «التحالف» والقوى الموالية له، وفق ما أوحت به التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية في حكومة الرئيس المنتهية ولايته، خالد اليماني، الذي فصّل مبادرة غريفيث في شأن الحديدة على مقاس «الشرعية»، قائلاً إنها تنص على «الانسحاب الكامل من الحديدة، وإحلال قوة من وزارة الداخلية اليمنية محل الميليشيات الحوثية».