تونس | في السنوات الأخيرة، صدّق البرلمان التونسي على عدة قوانين يمكن اعتبارها تقدميّة وثوريّة في ما يتعلق بالحقوق والحريات الفردية وضمان حرمة الأشخاص وكرامتهم، وهو يستعد لمناقشة أخرى. كذلك أُلغيَت ونُقِّحَت عدة قوانين وفصول ومناشير تُعَدّ قمعية أو رجعية من حيث عدم احترامها للمساواة بين الجنسين أو للحرمة الجسدية. هذه الحركية التشريعية تثير بالطبع مواقف متنوعة وأحياناً متصادمة، خصوصاً أنّها تتشابك في كثير من الأحيان مع المقدّس الديني والعرف والعادات. فعلى المستوى الشعبي، يبدو أنّ هذه القوانين تزعج، بل وتصدم الأغلبية التي ترى فيها مسّاً بمقدساتها وهدماً للبنى المجتمعية التقليدية. أما على مستوى النخب، فتراوح المواقف ما بين التفاؤل والحذر والشك. فالبعض، وخصوصاً الحقوقيين والمثقفين، يرون أنّ البلاد تعيش ثورة تشريعية حقيقية وأنه يجب دعمها بكل قوة ومن دون شروط، فيما يتوجس آخرون من نيات منظومة الحكم من وراء هذا النشاط التشريعي، وذلك برغم تأييدهم من حيث المبدأ للإصلاحات. لماذا كل هذا التوجس؟ الإجابة بديهية: لم تعوّدنا الأنظمة العربية، ولا حتى أكثرها ديموقراطية، حصول «المفاجآت السعيدة»، وخبرة أي مواطن عربي أصيل بحكّامه تجعله يبحث دوماً عن المصلحة من أي قرار أو قانون يصدر، أو يحاول تخمين مكان الفخ.في تونس، تتالت الانتصارات الحقوقية التي حققها المجتمع المدني في السنوات الأخيرة بعدما صُدِّق على عدة قوانين، بعضها كان مطلباً تاريخياً، وبعضها الآخر جاء لمعالجة ظواهر بدأت تبرز في السنوات الأخيرة (قوانين تهمّ جميع المواطنين، وحتى من غير المواطنين، وأخرى خاصة بجنس أو بأقلية).
مثلاً، صُدِّق على قانون «منع الاتجار بالبشر» في 3 آب 2016، وهو سيكون أساساً قانونياً لتشديد العقوبات في قضايا كان يُتساهَل معها: الاستغلال الجنسي، السخرة، عمل القصّر، بيع الأعضاء البشرية، إلخ. كذلك صدَّقت لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان في 6 حزيران/جوان 2018 على النسخة النهائية من مشروع قانون القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
صراع أجنحة الحكم ليس المجال الوحيد لاستثمار القوانين ومشاريعها


المرأة التونسية هي «الرابح الأكبر»، إذ في 11 آب/أوت 2017 صُدِّق على القانون الأساسي المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة، والذي رفع سنّ الرشد الجنسي لحماية القاصرات من مختلف أنواع الاستغلال وأُلغيت فصول قانونية كانت تسمح بزواج المغتصب بضحيته في نوع من «جبر للضرر» يلغي عقوبة السجن. بعدها بأسابيع، وتحديداً في 14 أيلول/سبتمبر 2017، أُلغي مرسوم كان يمنع التونسيات من الزواج بأجانب إلا بعد «استظهارهم بشهادة اعتناق الإسلام».
كل هذه القوانين قد تصبح مجرد إصلاحات طفيفة إذا ما قورنت بمشاريع قوانين جديدة تثير الجدل في تونس منذ أسابيع، والحديث هنا عن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي صدر في 8 حزيران/جوان الماضي. هذه اللجنة أعلنها الرئيس الباجي قائد السبسي، أثناء العيد الوطني للمرأة يوم 13 آب/أوت 2017، وحُددت لها مهمات واضحة: دراسة المدونة القانونية التونسية وتبيان مواضع تعارضها مع الدستور التونسي الجديد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومن ثم تقديم مقترحات لإصلاحها. ترأس اللجنة السيّدة بشرى بلحاج حميدة، وهي ناشطة حقوقية نسوية ونائبة عن «نداء تونس»، أما بقية الأعضاء فأغلبهم أكاديميون ومختصون في القانون. وهذه اللجنة ذات طابع استشاري، وليست لديها صلاحيات تشريعية، لكن تقريرها ومقترحاتها أثارا صدمة لدى الرأي العام واستنفرا القوى المحافظة نظراً إلى التصادم مع النصوص الإسلامية من قرآن وسنّة.
جردت اللجنة كل القوانين التي لها سند ديني، وتلك التي لا تحترم مبدأ المساواة بين الجنسين وبين الأبناء، بالإضافة إلى القوانين التي تُضيّق على الحريات الفردية بمختلف أشكالها. وقدمت مقترحاتها لتعديل القوانين: إلغاء التمييز في قانون منح الجنسية، المساواة في الإرث بين الأبناء مهما كان جنسهم وعدم حرمان الأبناء «غير الشرعيين» نصيبهم، إلغاء تجريم المثلية الجنسية، إلغاء رئاسة الرجل للعائلة (القوامة)، إلغاء الرقابة الدينية على الأعمال الفنية، إلخ.
طبعاً لا يزال الأمر في طور الاقتراحات وجسّ النبض وردود الفعل، لكن لو وصلت النصوص إلى البرلمان وصُدِّق على قوانين، ولو بصيغة معدّلة، فسيكون لذلك أثر كبير بالمجتمع التونسي في السنوات المقبلة.

الإصبع و القمر...
حسب المثل الصيني: «عندما يشير الحكيم إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع». الأمثال الشعبية ليست دائماً على حق، فربما من الذكاء التركيز على الإصبع، خصوصاً عندما يكون «الحكيم» مشكوكاً في نياته، وهذا ما يفعله المتوجسون، وبعضهم لا يرى أنّ هناك قمراً أصلاً.
على سبيل المثال، قانون مكافحة الاتجار بالبشر، رغم مقاصده النبيلة وضرورته، خصوصاً مع تطوّر الإجرام المنظم في البلاد وفي المنطقة، ففي السلطة وخارجها من يريدون جعله كإحدى أدوات مكافحة الهجرة غير النظامية وزيادة التضييق على التونسيين وبقية الأفارقة الذين يريدون ممارسة «حقّهم الإنساني» في التنقل داخل القارة وعبور المتوسط. تتزايد الضغوط الأوروبية على تونس لأداء دور حارس الحدود بالوكالة، وقد يكون من المناسب تغليف سياسة الهجرة الرادعة بطابع إنساني وتسويقها كحماية للمهاجرين من الاستغلال.
رغم كل المآخذ المشروعة أحياناً والمبالغ فيها تارة أخرى على القوانين التي صُدِّق عليها، فإنّها حظيت بإجماع لا بأس به على مستوى النخب السياسية والحقوقية والثقافية. لكنّ المعركة الكبرى ستكون حول مخرجات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، خصوصاً إذا ما تحوّلت النصوص قريباً إلى مشاريع قوانين.
هذا التقرير يعتبره الكثيرون استثماراً سياسياً من قبل أحد شقَّي التحالف الحاكم في تونس، أي «نداء تونس»، خاصةً أنّ اللجنة كانت بمبادرة من رئيس الجمهورية، وهو مؤسس هذا الحزب، فيما عُهدت رئاستها إلى نائبة برلمانية من الحزب نفسه. ويرى البعض أنّ التقرير مجرد مناورة يريد «نداء تونس» من خلالها إعادة لمّ شمل «الحداثيين» و«العلمانيين» من حوله، خصوصاً بعد الانشقاقات المتعددة التي عاشها الحزب، وبعد الخسارة (النسبية) في الانتخابات البلدية.
هذه المخاوف لديها بعض المشروعية، فـ«النداء» هو بشكل ما وريث «الحزب الدستوري» الذي حكم تونس 55 عاماً، والذي كانت قضايا المرأة والمساواة أحد أبرز أعمدة خطابه الدعائي. وثمة مكسب آخر يمكن أن يحققه «النداء» إذا ما أوصل مقترحات اللجنة إلى البرلمان: إحراج «حركة النهضة»، وهي حليفه اللدود، وحشرها في زاوية صعبة. في هذه الحالة، سيجد الإسلاميون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: رفض الإصلاحات، وهذا يعني تأكيد صورة الحزب كحركة «إخوانية» معادية للمرأة والحريات، وهذا مكلف خارجياً وداخلياً، أو القبول بها، وهذا يعني صدمة للجمهور المحافظ والمتديّن، وربما خسارة كتلة من الأصوات في الانتخابات المقبلة. لكنّ «النهضة» قد تقلب الطاولة إذا ما استطاعت تعطيل وصول التقرير إلى المجلس خلال الأشهر المقبلة، إذ لم تبقَ إلا سنة واحدة في عمر المجلس الحالي. وهكذا، يمكن الحركة الاستفادة من ردّ فعل المواطنين الغاضبين من التقرير، وكسب أصوات ستصبّ في مصلحة حزب محافظ «يحمي» الدين والعائلة والتقاليد.
صراع أجنحة الحكم ليس هو المجال الوحيد لاستثمار القوانين ومشاريع القوانين الجديدة، بل هناك عدة «استعمالات» أخرى ممكنة. فإصدار قوانين تقدميّة منسجمة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، قد يخدم أيضاً منظومة الحكم من ناحية تلميع صورتها في الخارج والتغطية على جوانب أخرى مثل الفساد ونقص الشفافية، خصوصاً أنّ البلاد مُدرجة على قائمات سوداء أوروبية تتعلق بالجنات الضريبية وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
كل هذه الحركية القانونية الحقوقية قد تكون أيضاً بمثابة سواتر دخانية تستعملها منظومة الحكم الحالية للتغطية على فشلها الذريع في مختلف المجالات، خصوصاً الاقتصادية ـــ الاجتماعي. فهي تسعى إلى إبعاد الأنظار عن نتائج النمو الضعيفة وتزايد نسب البطالة والفقر عبر إغراء النخب المؤثرة بقوانين جذابة. ويمكن أن تُستعمل أيضاً لإلهاء «الرأي العام» في نقاشات وصراعات دينية ـــ هوياتية، فيما تُطبق الحكومة بكل إخلاص إملاءات «الجهات الدولية المانحة»: سياسة تقشف، رفع الدعم، تقليص حجم القطاع العمومي ودوره. مثال على ذلك، ينشغل الرأي العام حالياً بتولي أول مرأة لرئاسة بلدية تونس وبتقرير لجنة الحريات، فيما لا تنتبه إلا قلة من المتابعين إلى تفاصيل الشأن العام لتقدّم مفاوضات الدولة التونسية والاتحاد الأوروبي حول بنود اتفاقية قد تكون الأخطر في تاريخ تونس المعاصر، وهي اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمّق (أليكا) الذي يُراد منها فتح السوق التونسية كلياً أمام ما بقي من الخدمات والسلع الأوروبية التي لم تشملها اتفاقية الشراكة التونسية ـــ الأوروبية التي وُقّعت عام 1995.



رأي: خذ وطالب!


مهما كانت نيات التحالف الحاكم من وراء مثل هذه القوانين، فلا يجب «إلقاء الرضيع مع ماء الاستحمام» (باستعارة من مقولة إنكليزية تشير إلى الأخطاء حينما نخسر أمراً جيداً أثناء سعينا إلى تجنب أمور سيئة).
سيكون من الخطأ أن تتخاذل القوى التقدميّة في دعم القوانين التحررية نظراً إلى أنّها «غير بريئة»، وإنّما يجب أن تضغط أكثر لتعزيز الترسانة القانونية الضامنة للحقوق والحريات الفردية وإحراج السلطة ودفعها إلى صياغة الأفكار والمبادرات في شكل مشاريع قوانين وعرضها على البرلمان والتصديق عليها. ومن العيب تصوير كل القوانين ذات البعد «الحقوقي» كـ«خضوع للإملاءات الأوروبية»، فهذا يُبخّس حق أجيال من التونسيات والتونسيين الذين ناضلوا، ودفعوا أثماناً (باهظة أحياناً) من أجل المساواة الكاملة بين الجنسين وحرية المعتقد والحرمة الجسدية. ومن الجبن التلطي وراء التبرير العبقري الذي يقول إنّ معركة الحريات الفردية ثانوية وليست إلا «مطالب برجوازية» لا شأن للشعب بها، وهي إلهاء له عن مشاكله الحقيقية (الاقتصادية): يمكن المواطن أن يكون حراً وسيّداً وكريماً في نفس الوقت، فلا مبرر للمفاضلة.
الذين يعتقدون في وجوب انتظار تطور الشعب بصفة طبيعية و«نضجه»، أي انتظار الوقت المناسب، ما عليهم إلا أن ينظروا من حولهم في المنطقة لكي يروا كيف حافظت مجتمعات عدة على إرثها الثقافي الاجتماعي «القروسطي» حتى وهي في القرن الحادي والعشرين، وكيف أنّ مجتمعات أخرى كانت تعتبر منارات، سارت إلى الخلف بسرعة جنونية وهي تغرق الآن في مستنقعات الطائفية والفاشية الدينية.
سياسة «خذ وطالب» يمكن أن تكون فعالة في مثل هذه الحالة: كل قانون ذي بعد تقدميّ هو مكسب يجب تثمينه، ولكنه ليس منّة و لا يمكن أن يكون «رشوة» من أجل هدنة اجتماعية سياسية. إذا ما أرادت السلطة تحقيق مكاسب سياسية، فلتفعل، ولكن عليها دفع الضرائب.