الرباط | لا تزال الأحكام الصادرة قبل بضعة أيام على قادة حراك الريف في المغرب وناشطيه، تثير موجة استنكار على المستويين المحلي والدولي، مرفقة بالذهول، نظراً إلى قساوة الأحكام التي راوحت ما بين 5 أعوام و20 عاماً سجناً. الاستنكار عكسته تصريحات قوية لقياديين وحقوقيين وسياسيين، منهم على سبيل المثال الأمينة العامة لـ«الحزب الاشتراكي الموحد» (يساري معارض) نبيلة منيب، التي رأت أنّ الأحكام «قاسية وجائرة... وتعيد المغرب إلى سنوات الجمر والرصاص وتمسّ باستقرار البلاد من خلال تغذية الشعور بالحكَرة (الاحتقار) لدى الشعب المغربي».هذا التصريح الذي يُعدُّ الأقوى حتى الآن، لم يكن وحيداً، إذ أعلنت المحامية الشهيرة نعيمة الكَلاف، وهي عضو هيئة الدفاع عن معتقلي حراك الريف، وتحظى بسمعة طيبة في الأوساط السياسية والحقوقية والشعبية، في تدوينة لها على صفحتها بموقع «فايسبوك» أنّ «الملك هو المسؤول عن الأحكام القاسية الصادرة... باعتباره رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء».
هذان التصريحان يعكسان موجة السخط العارمة التي عمّت عقب صدور الأحكام على معتقلي حراك الريف، ويترجمان أيضاً قلقاً لا يني يتسع بين الفاعلين السياسيين والحقوقيين وناشطي المجتمع المدني، بفعل ما يعدّونه ميلاً واضحاً إلى تغليب كفة التدبير الأمني للمشاكل السياسية والاجتماعية والحقوقية والإعلامية. لكن على الضفة الأخرى، ثمة تهوين رسمي بهذه الاعتبارات، إذ قال وزير حقوق الإنسان مصطفى الرميد، وهو المحسوب على الجناح المعتدل في «حزب العدالة والتنمية»: «الأحكام صدرت عن محكمة ابتدائية (أولية) وقضاياها ستعرض على قضاة لدى محكمة الاستئناف ثم النقض (التمييز)، ولديهم من الكفاءة ما يخوّل لهم البت فيها وفق القانون»، علماً أنّ المنتقدين لا يعدمون مبرراً للقول إنّ القضاء المغربي «مُسيّر لا مُخيّر».
الانتقادات للأحكام الصادرة بحقّ معتقلي حراك الريف، يستند فيها أصحابها إلى معطى أساسي يتمثل في أنّ التظاهرات التي اعتُقل على أساسها قادة الحراك وناشطيه، كان سببها التذمر من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في منطقة الريف، وهذا ما أعلنه قائد الحراك ناصر الزفزافي في أكثر من محطة على مدى أكثر من عام دامٍ. كان يقول إنّ مطالب الحراك تتلخص في «الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية الصرفة»، أو بصيغة أكثر وضوحاً صدرت عنه: «شغل ومستشفى وجامعة»، وبالتالي يقول منتقدو الأحكام إنّ التدبير الذي اختاره المسؤولون في البلاد لحراك الريف «توسل المقاربة الأمنية بدلاً من الاقتصادية والاجتماعية».
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة في المغرب، لا تحتاج إلى تحليل كثير للمعطيات، ذلك أنّ التقارير الدولية المتخصصة دأبت على تصنيف البلاد في مجالات التنمية وأحوال المجتمع ضمن مراتب ومستويات متأخرة. من بين ذلك أنّ ثلث المغاربة تقريباً يعيشون بمتوسط أقل من دولار في اليوم، فيما لا يتجاوز مؤشر التنمية السنوية نسبة 2 أو 3 في المئة بحسب مستويات تساقط الأمطار، بخاصة أنّ الموازنة العامة للدولة تعتمد على عنصر الفلاحة (الزراعة) بنسبة كبيرة. كذلك يضع تصنيف واقع التعليم والتربية وفق التقارير الدولية، المغرب بانتظام في مراتب ذيلية وفي آخر قائمة البلدان العربية برفقة اليمن وجيبوتي. وكشفت تقارير محلية متخصصة، على غرار تقرير أخير أصدره «مجلس اللجنة الاستشارية للجهوية»، ويرأسه عمر عزيمان، وهو أيضاً مستشار للملك محمد السادس، عن معطيات وأرقام هائلة، من قبيل أن ثلث المغاربة أميون، ومليون تلميذ غادروا الدراسة، وسبعين في المئة من متخرجي الجامعات عاطلون من العمل.
تصرّ الدولة على تدبير الأزمات عبر تشديد القبضة على الحياة العامة


أمام هذا الواقع المتأزم، كان طبيعياً أن تتكرر الاحتجاجات وتتناسل وتتشابه، مثلما حدث مع حراك الريف في مدينة الحسيمة (أقصى شمال البلاد) الذي دام لأكثر من سنة بين خريف 2016 وصيف 2017، ومع احتجاجات مدينة جرادة (شمال شرق البلاد) الذي دام عدة أشهر انطلاقاً من نهاية عام 2017.
ينظر متخصصون إلى هذا الوضع، باعتباره نتيجة لعدم توافر الدولة المغربية على نموذج تنموي يحلّ معضلة التنمية بمختلف مجالاتها، واعتمادها المقاربة الأمنية في مواجهة الاحتجاجات وتقديم أبرز المحتجين إلى القضاء، وإصدار أحكام قاسية جداً في حقهم كما حدث مع حراك الريف واحتجاجات جرادة.
بالنسبة إلى الدولة المغربية، إنّ ما يجعل هذه المقاربة الأمنية سبيلاً مفضّلاً، هو الإرهاب بعناصره المحلية وامتداداته الدولية، إذ تتتابع أخبار اكتشاف الخلايا الإرهابية بين فينة وأخرى في أكثر من مدينة مغربية، وهو عمل أمني بات يحظى بأولوية بلغت مستوى استحداث مؤسسة أمنية متخصصة، اسمها «المكتب المركزي للأبحاث القضائية» في 2015، وتتبع إلى «مديرية مراقبة التراب الوطني» المعروفة اختصاراً بـ«دي إيس تي» (مخابرات مدنية). وقد ساهمت الظرفية الأمنية الدولية المتصفة بتعميم هاجس العمليات الإرهابية عبر شتى أنحاء العالم، ولا سيما ببلدان الغرب، في توفير خطوط كبيرة للعمل الأمني المشترك بين المؤسسات الأمنية المغربية والغربية (الفرنسية والإسبانية والبلجيكية، والأميركية أساساً). وجاء تصاعد المدّ السياسي اليميني في أكثر من بلد غربي أوروبي، إضافة إلى رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ليضعفا الاهتمام بعنصر حقوق الإنسان في المغرب وغيره من البلدان العربية، وبلغ هذا التهميش مستويات غير مسبوقة، كما حدث أخيراً في العاصمة الفرنسية باريس، حيث كُرِّم أحد كبار رجال الأمن المغاربة (محمود عرشان)، علماً بأنّ اتهامات من الأوساط الحقوقية في المغرب تُوجّهُ إليه بالمسؤولية عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إبان حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
هذه المعطيات، مضافة إليها أزمات الهجرة عبر ضفتي البحر الأبيض المتوسط، جعلت الهاجس الحقوقي يركن في أقاصي اهتمامات الساسة والحكومات الغربية، ويُستعاض عنه بتوثيق خيوط التعاون المشترك في المجالات الأمنية المرتبطة أساساً بالإرهاب.
«هل تريدون أن نصبح مثل سوريا؟»، هذه هي العبارة التي يقذف بها المنتصرون للخيار الأمني في تدبير كل القضايا تقريباً المرتبطة بحقوق التظاهر والاحتجاج السلميين وحرية التعبير والصحافة، وأيضاً «العمل الحقوقي الجمعوي» الذي لا يتماشى والتصورات الرسمية للدولة، مع العلم أنّ هذه الأمور منصوص عليها كحقوق مدنية في نصوص الدستور والقوانين باعتبارها من «الحريات العامة». لذا تتعدد قضايا الانتهاكات لحقوق الإنسان، وتشهد تكاثراً لافتاً في الآونة الأخيرة، ولا سيما مع حراك الريف واحتجاجات جرادة.
كخلاصة، يُمكن القول إنّ الدولة المغربية مصرّة على تدبير المشاكل المرتبطة بتأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية عبر تشديد القبضة على مناحي الحياة العامة السياسية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية. لكن هذا الخيار يبدو محدود الفعالية على المدى المتوسط في أبعد تقدير، لأن المشاكل تتضخم، بينما المقاربة الأمنية ذات أفق محدود. فهل يتوافر الذين يقررون في ملفات تدبير الشأن العام بالمغرب على بديل آخر أكثر جدية؟ حتى الآن، لا يبدو ذلك ممكناً، ولا تظهر مؤشراته في الأفق.



والد الزفزافي: «أي بلد هذا؟»


والد قائد حراك الريف ناصر الزفزافي، المحكوم بعشرين سنة سجناً، قال بدوره إنّ «الأحكام قاسية جداً، وإذا كان لمصدّريها أو مَن أمروا بإصدارها ذرّة من ضمير، فسوف يؤنبهم ضميرهم». رافعاً خلفه صورة القائد الريفي التاريخي عبد الكريم الخطابي، تساءل أحمد الزفزافي في أثناء حديث إلى صحيفة «إلباييس» الإسبانية: «أي بلد هذا؟ حتى في زمن فرانكو لم يكن لديكم شيء مماثل»، خاتماً: «أنا لا أعرف... من الأفضل أن أصمت».