قررت شركة البريد الخاصة ان تكرّم موظفاً رفيعاً في الدولة، هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. اقترحت على وزير الاتصالات اصدار طابع بريدي له، لمناسبة مرور ربع قرن على توليه وظيفته، فوافق بكل رحابة صدر. هكذا، وضع سلامة صوره على الطوابع «الاميرية»، التي يُفترض ان «تبرز تراث الأمة وتاريخها وتقاليدها ومنجزاتها، وتحيي ذكرى أبطالها وأعيادها القومية، وجمال البلاد التي تصدر عنها»، بحسب التعريف المنشور على موقع «ليبان بوست» على الانترنت.بالتنسيق مع وزارة الاتصالات، أصدرت «ليبان بوست» طابعاً بريدياً عادياً، بقيمة 5 آلاف ليرة، وبكميّة 50 ألف طابع، تكريماً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. قررت الشركة الخاصة، التي أقصت المديرية العامة للبريد عن مهامها، تكريم موظف رفيع في الدولة، لمناسبة مرور 25 عاماً على «حاكميّة الاستقرار»، كما جاء على المغلّفات المرقّمة (عددها ألف)، التي تم عرضها في اليوم الأول للإصدار (25 حزيران 2018) بسعر 15 ألف ليرة. هذا «التكريم» يطرح تساؤلات كثيرة عن الآليات المتبعة لاصدار الطوابع واختيار الاشخاص المكرمين والاسباب الموجبة لتكريمهم.
بمعزل عن الانقسام الواسع بين اللبنانيين في شأن حاكم مصرف لبنان: هل هو بطل من ابطال الامة ام لا؟ وبمعزل عن الخلاف حول استحقاقه التكريم، ولا سيما في الظروف الراهنة حيث يسود القلق من ازمة نقدية محتملة. فإن مسالة اصدار طوابع بريدية لتكريم اشخاص محددين يثير اشكاليات كثيرة. اذ كيف يمكن ترك هذه المهمة «الوطنية» و«السيادية» الى شركة مملوكة من رجل اعمال وسياسي لديه مصالح شخصية وخاصة مع بعض الذين تكرّمهم شركته؟ علماً أن طابع رياض سلامة يأتي ضمن سلسلة من «التكريمات» شملت في الفترة الأخيرة شخصيات مثل كارلوس غصن وإيلي صعب وسواهما من رجال الأعمال والمال الذين ما زالوا على قيد الحياة، اي انهم ما زالوا يمارسون ادوارا ويقومون باعمال يمكن ان تكون سيئة او سلبية بالنسبة للكثيرين!
في الواقع، «شخصنت» الدولة، عبر وزراء الاتصالات، إصدار الطوابع، ولم تضع اي قانون لإصدار الطوابع الشخصية، كما هي الحال في بلدان اخرى. وهنا تظهر الاشكالية الأبرز: من يكرّم من؟ ومن يقرر؟ فوزير الاتصالات، وبقرار منه لوحده، يجيز للمديرية العامة للبريد، بالتنسيق مع «ليبان بوست»، اصدار الطابع العادي، في حين ان مجلس الوزراء هو صاحب القرار لاصدار الطابع التذكاري على قاعدة «ستّة وستّة مكرر»، وقد يحدث ذلك أيضاً بعد ان يتقدّم صاحب العلاقة أو ورثته أو المهتمّون بإرثه أو جهات أخرى بطلب مفصّل عن إنجازاته ودواعي تكريمه وبموافقة الوزارة. هذا من حيث الاصول الشكلية المتبعة، ولكن ذلك يثير اشكالية اضافية تتعلق بـ«الاستنسابية» في قبول الطلبات وفقاً للعلاقات العامة المهيمنة، إذ إن كل شيء جائز طالما أنه لا توجد هيئة مختصّة مشرفة على المهمّة.

إنفلاش نحو الـ«سينييه»
جاء تكريم سلامة في عقر «داره»، في متحف مصرف لبنان، حيث جرى الاحتفال أول من أمس. وهنا اشكالية اخرى، اذ ان الاحتفال باصدار طابع يقع على عاتق المكرّم، وهو ما يعطيه فرصة بث الاشارات الرمزية التي تخدم صورته وأهدافه. فقد اختار كارلوس غصن، مثلاً، «الزيتونة باي» للاحتفال بتكريمه، في حين اختار ايلي صعب «بيت بيروت». سابقا، كانت غالبيّة الإصدارات تتمّ في مقر وزارة الاتصالات، امّا اليوم فان اختيار المكان وبرنامج الاحتفال ونوعية المدعوين، يعطي انطباعاً عاماً بأن الطوابع اصبحت مخصصة للمصنّفين «سينييه»، وهو ما يجعل المناسبة فرصة للترويج الشخصي، فيبذخ المكرّم في توفير الكوكتيل وتوزيع الدعوات، ويعمد أحياناً إلى شراء كميّة كبيرة من الطوابع، في أول إصدار لها، لتوزيعها كتذكارات.

ابعد من الشكليات
مسألة إصدار الطوابع أبعد من الشكليّات. تلك الوريقة المصمغة، برمزّيتها الثقافيّة وأبعادها التاريخيّة والسياسيّة وبدلالاتها السيميائيّة، تختصر الذاكرة الجمعيّة للشعب وفكر الدولة. فهذه المسألة لا تقتصر على «الانفلاش» في اختيار شخصيات ــــ لم يُحسم أثرها السابق والحالي واللاحق على المجتمع والاقتصاد والثقافة والابداع ــــ بل أن «تدهوراً لافتاً يحصل على الصعيد الفنيّ»، كما تقول الباحثة في «الطوابعيّة» وعضو النادي الدولي لهواة الطوابع هدى طالب سراج. هذا التدهور ينعكس على صناعة الطابع لناحية نوعيّة الورق والتصميم الخالي من أي تدخّل فنّي واختيار صور «البروفيل» المستهلكة للشخصية. فيما تحظى إحدى المطابع بحصرية اصدار هذه الطوابع، وهذا سبب من اسباب تدهور المعايير الفنية. تشرح سراج أن «بعض الدول لديه إجراءات صارمة في اختيار الشخص، كأن يكون متوفى مثلاً. الحاصل اليوم في لبنان هو تغيير لنهج متّبع، وهذا شيء يمكن ان إيجابيا في بناء علاقة الناس مع الطابع». الا ان هذه العلاقة يمكن ان تكون سلبية ايضا، اذ أن اختيار شخصيات ذات فائدة للطبقة الحاكمة يفرّغ الطابع من معناه الرمزي ويحوّله الى اداة يتحكم بها من يمتلك المال والنفوذ.
الطوابع «الاميرية» يُفترض ان «تبرز تراث الأمة وتاريخها وتقاليدها ومنجزاتها وتحيي ذكرى أبطالها»


في هذا السياق، يأتي اختيار «ليبان بوست» سلامة لتكريمه بوصفه «بطلاً قومياً»، وبما أن الطابع الخاص بحاكم البنك المركزي هو إصدار عادي، فإن وزير الاتصالات، بناء على اقتراح «المديرية العامة للبريد» ــــ عمليّاً «ليبان بوست» ــــ هو الذي يقرر. ويتم ذلك من دون طرح الامر على مجلس الوزراء، على عكس الطوابع التذكارية التي تصدر بعد طرحها على المجلس والتصويت عليها.

اين اللجنة؟
في ظلّ «الاحتكار» الحاصل، يبدو ملحّاً إعادة إحياء اللجنة التي تشكّلت في عهد الرئيس شهاب، عندما «أصدر مرسوماً عام 1959 قضى بتشكيل لجنة استشارية تعطي توصيات بشأن إصدار الطوابع، وفيها ممثلون عن الوزير وهيئة البريد ومثقفون»، بحسب سراج. لكن اللجنة عملت بين الستينات وبداية الحرب وتوقّفت بعدها عن العمل. إحياء اللجنة ضروري لتشمل أعضاء «موثوقاً بهم يأخذون في الحسبان التاريخ والسياسة والرأي العام والذاكرة الجمعية للشعب لاختيار الشخصيات والمناسبات والقضايا» تقول سراج، وتسأل على سبيل المثال عن «غياب أي إصدار خاص بضحايا الحرب اللبنانية من قتلى وجرحى ومفقودين وكأنها مغيّبة عن الذاكرة». وتشير صاحبة كتاب «لبنان في طوابعه ــــ مجموعة شفيق طالب» إلى أن «الطوابع أهمّ من النقد والأوسمة وهي «ديك» التكريم، لأنها سنوية وبإصدارات عدة، وهي حافظة للذاكرة ولفكر الدولة، على عكس العملة التي لا تتغير إلاّ بمرور الوقت». وترى أنه من الإيجابي في الإصدار الجديد «أن يكون سلامة أول شخصية اقتصادية تكرّم بطابع بريدي في لبنان. إلاّ أن الإجابة عن أهليّته ليست آنيّة بل متعلقة بالرأي العام». ولا تنفي عضو الأكاديمية العالمية للطوابع في باريس، أن «ثمة استنسابية في اختيار الشخصيات حتى ولو كانت مستحقّة، ولا يعرف عن القرار إلا بعد صدوره بالجريدة الرسمية».



حفظ انتقائي للذاكرة

(هيثم الموسوي)

وفق هدى طالب سراج، بدأ إصدار الطوابع يشمل شخصيات عامة في لبنان خارج الإطار السياسي مع بداية السبعينات. إذ عرف العام 1971 إصدار مجموعة طوابع لمشاهير منهم الإمام الأوزاعي وجبران خليل جبران والأخطل الصغير وحسن كامل الصباح. وسجّلت في العام نفسه مفارقة بإصدار أول طابع لشخصية سياسية عالمية في الذكرى المئوية لولادة لينين في «لبنان اليميني». وفي 1974 صدر طابع لملكة جمال الكون جورجينا رزق (انتخبت عام 1971). وصدرت في العام نفسه طوابع لشخصيات مثل قيصر الجميّل وحبيب سرور وداوود قرم وجبران ومصطفى فروخ وعمر الأنسي، وتبعها في 1978 إصدار للأديب ميخائيل نعيمة. وثمة مفارقات تذكرها سراج مثل «تغييب ذكر أسماء كرشيد كرامي الذي صدرت له صورة في طابع في ذكرى إطلاق «عربسات» من دون ذكر اسمه على الطابع، وهو أول شخصية سياسية غير مارونية صدر لها طابع، ولو كان شمّ ولا تدوق». كما تسأل عن غياب رؤساء المجلس النيابي مثلاً عن الإصدارات «ما عدا الرئيس عادل عسيران الذي حظي بإصدار متأخر، وكذلك مجموعة من رجالات الاستقلال قبل عامين». بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005 سلكت الأمور منحى متفلتاً من القيود الصارمة و«الاستابليشمنت» القاسي، فصدر في الذكرى الأولى للاغتيال في عهد وزير الاتصالات السابق مروان حمادة 4 طوابع للحريري. ووعد حمادة حينها بإصدار طوابع لشخصيات لبنانية أخرى. وفي 2007 عرفت المرأة بعضاً من حقها في الطوابع، وفي 2010 كرّمت شخصيات مثل المفتي حسن خالد والإمام موسى الصدر وبشير الجميل وكمال جنبلاط. وسجّلت في العام نفسه إصدارات خاصة بفنانين منهم فيروز وصباح والإخوة بصبوص ونبيه أبو الحسن وحسن علاء الدين.
كان الرئيس إميل إده أول شخصية لبنانية يصدر لها طابع عام 1936، بحسب سراج. وعرف لبنان منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب تقليد إصدار طابع لرئيس الجمهورية بالوشاح الرسمي (ما عدا الرئيس سليمان فرنجية الذي أصدر له طابع لاحق عام 2010). وتلفت سراج الى أن ابن سينا (1949) وهو أول مكرّم من التراث العربي الإسلامي في تاريخ طوابعنا وربما من بين قلّة، معلّقة بأن «ثمة عقلاً لا يريد حفظ الذاكرة، أو يحفظها بطريقة منتقاة».