كان يفترض بوزير الصحة غسان حاصباني أن يجري مراجعة جدية ونقدية لطريقة عمله خلال سنة ونصف سنة، لا سيما أنه من حصة حزب القوات الذي يقدم نفسه على أنه حزب لم يمدّ يده الى المال العام ولا دخل منظومة الفساد القائمة منذ 30 عاماً. وفعلياً، قام عمل هذه المنظومة على إضعاف مؤسسات القطاع العام من مدارس وجامعات ومستشفيات ومستوصفات مقابل دعم وتغطية القطاع الخاص. لذلك، كان على من يميّز نفسه عن هذه السلطة أن يبدأ تلقائياً بإعادة الاعتبار للمؤسسات العامة. ويصدف أن حاصباني تبوّأ إحدى أهم الوزارات الخدماتية التي تتصل بالمواطن مباشرة وتمس بحياته. والخطوة الاولى لأي وزير «نظيف» أن يجهد لتعزيز ثقة اللبنانيين المفقودة بالمستشفيات الحكومية. السؤال البديهي هنا: ماذا فعل حاصباني لإعادة هذه الثقة؟ وما الاستراتيجية التي وضعها لتحسين وضع هذه المستشفيات ومكافحة الفساد فيها، وأولها التوظيف السياسي والعقود الوهمية؟
تدور شبهات حول تمييز مناطقي وطائفي في قرار حاصباني (هيثم الموسوي)

الواضح هنا أن حاصباني لم يحمل الهمّ العام على كتفيه، لا عبر إجراء إصلاح جدي في الوزارة يقضي بغربلة الأطباء المتعاقدين وفق معيار الكفاءة من أولئك الذين أنزلتهم المحسوبيات السياسية، ولا عبر السعي الى دعم القطاع الاستشفائي العام. وعوضاً عن بذل جهد استثنائي لإعادة لحم الثقة المفقودة بين المواطن ومستشفيات الدولة، قرر حاصباني خفض «السقوف المالية» للمستشفيات الحكومية (الأموال التي تدفعها الدولة، عبر وزارة الصحة، إلى المستشفيات، بدل استشفاء المواطنين غير المشمولين بالضمان الاجتماعي الصناديق الضامنية)، مقابل رفع سقوف المستشفيات الخاصة. يريد الوزير تعزيز نظرية أن مؤسسات الاستشفاء العامة «ما بتسوى» ولا ملاذ آمناً للمريض سوى المستشفى الخاص. وفقاً لهذا المعيار، رفع حاصباني مخصصات مستشفيات بيروت الخاصة كـ«أوتيل ديو» (+900 مليون ليرة)، والجامعة الأميركية (+850 مليون ليرة)، ومستشفى الروم (+600 مليون ليرة)،ومستشفى رزق (+750 مليون ليرة)، والجعيتاوي (+800 مليون ليرة) مقابل خفض سقف مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي بما يقارب أربعة مليارات ليرة (المستشفيات الأربعة الأولى لا تستقبل مرضى «على حساب وزارة الصحة»، إلا بطلب مباشر من مكتب وزير الصحة)!
السؤال الأهم عن المعايير المعتمدة في الزيادات حتى ضمن المستشفيات الخاصة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عمد حاصباني الى خفض سقف مستشفيات الرسول الأعظم والساحل والزهراء (مقارنة بما صُرف عام 2017)، رغم كثافة الضغط على هذه المستشفيات في الضاحية. وسيلاحظ من يدقق في جداول توزيع السقوف أن مستشفى الرسول الأعظم، مثلاً، شمله الخفض بنحو 500 مليون ليرة، لكن أضيف مبلغ 750 مليون ليرة للقسم التخصصي الذي يتولى زرع الكلى والكبد بكلفة شبه مجانية، علماً بأن المستشفى يعاني من ضغط كبير على الاستشفاء «العادي»).

«بشرّي بسمنة والباقون بزيت»
يتكرر الأمر في محافظة الشمال: المستشفيات الخاصة بسمنة والحكومية بزيت، ولو أن استثناء سُجّل لمصلحة بعض المستشفيات الخاصة. ففي إطار التوزيع «العلمي العادل» المعتمد من حاصباني، خفضت سقوف مستشفيات تنورين وإهدن وسير الضنية وعبدالله الراسي وطرابلس الحكومية، ورفع سقف مستشفى بشري من مليار و100 مليون ليرة الى مليار و300 مليون، علماً بأن مصادر وزارة الصحة تؤكد أن المستشفى المذكور ليس بحاجة إلى هذه الزيادة لأنه لم يصرف السقف المحدّد له في السنوات الماضية. كذلك تم رفع سقف مستشفى «أورانج ناسو» الحكومي الذي وسعت أقسامه منذ عامين فقط من مليار و950 مليون ليرة الى مليارين و50 مليوناً، ومستشفى المنية الحكومي الحديث هو الآخر من مليار ليرة الى مليار و90 مليوناً.


أما المستشفيات الخاصة كالمنلا والخير والسلام والهيكلية والحبتور والكورة وغيرها فتم رفع سقوفها، في حين جرى خفض مخصصات المستشفيات الخيرية لأسباب مجهولة (رغم وعود الوزير السابقة بزيادتها) وأبرزها المستشفى الخيري الاسلامي الذي يعدّ من الأكبر في الشمال، ويتضمن أكبر مركز غسيل كلى في الشمال وعكار، مع ذلك انخفض سقفه بنحو 300 مليون ليرة (يتبع هذا المستشفى لآل كرامي، الذين يعادون القوات اللبنانية بسبب إدانة قائدها، سمير جعجع، باغتيال الرئيس رشيد كرامي. وفي الإطار عينه، تدور شبهة التمييز السياسي والمناطقي والطائفي على آلية توزيع السقوف المالية على المستشفيات).
وفي محافظة الجنوب، آثر حاصباني إنزال «العقوبات» نفسها على المستشفيات الحكومية، فخفض سقوف مستشفى صيدا الحكومي وجزين وميس الجبل ومرجعيون وحاصبيا وبنت جبيل وصور وتبنين. و«الجريمة» الأكبر في هذا السياق ارتكبت بحق مستشفى نبيه بري الحكومي الجامعي (النبطية) حيث بلغ الحسم أكثر من مليار ليرة طال القسم الأكبر منها كلفة تصوير (pet scan) التي يحتاج إليها مرضى السرطان، والتي كان المستشفى يقدّمها بكلفة منخفضة للغاية. إذا كان من خرق حقيقي يسجل للوزير القواتي، فهو في تنفيذ ما عجز كل الوزراء السابقين عن فعله، إذ لم يجرؤ أي وزير على توجيه ضربة مماثلة الى المستشفيات الحكومية، في مسار لا يظهر له مستقبل سوى الخصخصة.

حاصباني يناقض حاصباني
يبرر حاصباني خفض السقوف المالية للمستشفيات الحكومية بالقول إنها وزعت «بشكل عادل وبحسب كثافة الطلب والخدمات وحجم المستشفيات لتأمين العلاج لجميع اللبنانيين في كافة المناطق». ويضيف أن المشكلة الأساسية للمستشفيات الحكومية «ليست في السقوف المالية، بل في عدم دفع الدولة لمستحقات هذه المستشفيات لعقود المصالحة منذ عام 2000، وقيمتها 240 مليار ليرة»، وأن تسديد هذه المبالغ هو «مفتاح الحل المالي» لأزمة هذه المستشفيات. من جهة، يبلغ الوزير اللبنانيين أن الأموال وزعت بحسب ضغط المرضى على المستشفيات، مشيراً الى أن هذا الضغط مرتفع على المستشفيات الخاصة فتم رفع «سقوفها»؛ ومن جهة أخرى «يكشف» أن للمستشفيات الحكومية مستحقات متراكمة لم تدفع من قبل الدولة تبلغ 240 مليار ليرة. بمعنى آخر، غالبية المستشفيات الحكومية تخطّت السقف المالي المحدد لها في السنوات الثماني عشرة الماضية. ولا يمكن تبرير هذا التجاوز إلا بحالتين: إما أن ضغط المرضى عليها فاق المتوقع، أو أن فيها هدراً مالياً. وفي كلتا الحالتين، ماذا فعل الوزير لمعالجة هذا الوضع سوى التململ على شاشات التلفزة على مدى ثلاثة أيام متعاقبة لتلميع صورته؟
قرر حاصباني خفض الأموال للمستشفيات الحكومية بدل تحصيل متأخراتها لدى الدولة


في موازاة ذلك، يقول العارفون في القطاع الصحي إن من المتوقع أن تزيد نفقات المستشفيات الحكومية بنسبة 15 الى 20% (ربطاً بإقرار سلسلة الرتب والراتب للعاملين فيها)، وهو ما يرتّب أعباء اضافية على كاهلها، وبالتالي مسؤولية حاصباني مضاعفة تجاهها، وكان أقل ما يمكن فعله هو الحفاظ على السقف السابق أو رفعه لا خفضه وإيقاع المستشفيات في عجز اضافي! وما الحديث عن «إضافة مداخيل جديدة الى هذه المستشفيات، مثل فحوص العمال والفحوص الخارجية وتأمين تمويل دولي لتطوير الطوارئ فيها» سوى استكمال لسياسة «سرقة الانجازات». فإلزام العمال بالحصول على شهادة صحية ليس بالأمر الجديد، بل يحصل منذ عام 2014، كذلك الأمر في ما خصّ التمويل الدولي الذي بدأ مذاك عبر البنك الدولي وغيره.

القفز فوق القانون
الأهم هنا أن سقوف المستشفيات الحكومية كانت توزع بناءً على اقتراح وزير الصحة ووزير المالية وفق مرسوم يحمل الرقم 4599 والذي يمكن أن يظل سارياً لخمس سنوات على التوالي من دون أي تعديل، الى حين صدور مرسوم آخر تماماً كما جرى من عام 2008 حتى عام 2013. التعديل الأخير في السقوف المالية وفق المرسوم تمّ في عام 2016، أي في عهد الوزير السابق وائل أبو فاعور، ليجري تعديلها بشكل عملي من دون إصدار مرسوم جديد في عام 2017 في عهد حاصباني (تلقى مخصصات اضافية بقيمة 15 مليار ليرة لبنانية على موازنة الوزارة)... الى أن قرر الوزير القواتي في 21 أيار الماضي، تاريخ الجلسة الحكومية الأخيرة قبل بدء مرحلة تصريف الاعمال، القفز فوق المرسوم عبر إصدار قرار فردي ليعيد توزيع السقوف على هواه ومن دون الرجوع لا الى مجلس الوزراء ولا الى وزير المال. وحجته، كما تبررها المصادر المقرّبة منه، أن اقتراح التعديل الذي قدمه لم يُطرح على جدول أعمال مجلس الوزراء، فاضطر الى اللجوء الى هذا القرار، رغم أن علامات استفهام كثيرة تطرح حول انتظاره نهاية ولاية الحكومة لطرح التعديل وحول مخالفته القانون الذي لا يجيز للوزير إلغاء مرسوم وزاري.