بعد ذلك التاريخ بسبعة عشر عاماً، لا تزال قوانين «الذاكرة» بعبارة منتقديها الذين يستخدمونها للإشارة إلى نصوص تشريعيّة جرى اعتمادها بين 1990 و2005 ويستنكرونها باعتبارها تأسيساً لـ«عقيدة تذكاريّة»، تثير النقاش في فرنسا حول الرهانات الأيديولوجيّة وآثارها السياسيّة وتُقسّم «المؤرخين» الذين لا يزال بعض المتسلحين منهم بخلفيّات أيديولوجيّة غير معلنة يعارضون بضراوة «ديكتاتوريّة الذاكرة التي تُهدّد التاريخ» (مقابلة بيار نورا مع جريدة لوفيغارو بتاريخ 16 شباط/ فيفري 2018). وفقاً لهؤلاء المؤرخين المناهضين للاعتراف القانونيّ بالعبوديّة والاتجار بالعبيد بوصفهما «جريمة ضدّ الإنسانيّة»، يبحث «قانون توبيرا» عن إرضاء الذاكرات الجريحة، لكن مع الابقاء على الذاكرات الفرديّة، فهو يقف ضدّ المشروع التاريخيّ. في ضوء هذا النقد، يُوجّه الاتهام إلى سلوك سياسيّ يلين خلال الاعتراض على الرواية الوطنيّة، أمام صعود المطالبات الهوياتيّة ويلعب لعبة الطائفيّة.
بلا شكّ، كان «قانون توبيرا» فعلاً سياسيّاً يحمل رمزيّة قويّة على طريق الاعتراف الحتميّ بالجرائم التاريخيّة، إذ كما يُذكّر في هذه المقابلة الباحث السياسيّ أوليفيّ لوكور غراند ميزون، المتخصص في مسائل مرتبطة بالتاريخ الاستعماريّ، «كان القانون الأسود المعتمد في 1685، الذي تمت صياغته زمن كولبرت، وزير لويس الرابع عشر، أوّل تشريع أوروبيّ للعبوديّة، ويعتبر تصنيفها جريمة ضدّ الإنسانيّة من قبل القانون الآنف الذكر تقدماً ملحوظاً، حتى وإن اختفت الإصلاحات التي كانت متوقّعة أثناء النقاشات البرلمانيّة بسبب معارضة الأغلبيّة الاشتراكيّة في ذلك الوقت».
في الأثناء، لا يمثّل مسار اعتراف المشرّع الفرنسيّ بجرائم الماضي من خلال إنشاء تدابير تذكاريّة سوى ترميم للنظام الرمزيّ، لكنّ الأمر لا يقتصر على ذلك، فقد سمح اعتماد قانون 23 شباط/ فيفري 2005 المسمى «قانون ماكاشيرا» بالفصل بين العبوديّة والمشروع الاستعماريّ الذي ينظر إليه في جوانبه الإيجابيّة. ويُذكّر مؤلف «إمبراطوريّة علماء الصحّة: العيش في المستعمرات» (باريس، فايار، 2014)، بأنّ القانون الأخير «أسس لتأويل رسميّ للاستعمار الفرنسيّ بوصفه عملاً يُفهم ضمنيّاً بأنّه إيجابيّ، لم يتم إلغاؤه حتى الآن، وفرنسا هي القوّة الاستعماريّة السابقة الوحيدة التي تنخرط في هذا التوجّه التحريفيّ والتبريريّ».
يُعدُّ إلغاء قانون يحتفي بالدور الإيجابيّ المزعوم للاستعمار من دون المسّ بـ«قانون توبيرا» قراراً سياسيّاً يدين الاستعمار بالإجماع. وقد جرى تلخيص هذا المشكل في عريضة 2 كانون الأول/ ديسمبر 2005 التي تحمل عنوان «الحريّة للتاريخ»، والتي وقّعتها في البدء 19 شخصيّة تطالب بإلغاء ما يسمى قوانين «الذاكرة» وخاصّة قانوني 21 أيار/ ماي 2001 و23 شباط/ فيفري 2005. تبرير هذا الطلب مذكور بوضوح في كتاب «عندما تمتزج الدولة بالتاريخ» (باريس، ستوك، 2006)، الذي ألفه رئيس «مؤسسة الحريّة للتاريخ» رينيه ريمون مع فرانسوا أزوفي. ويؤكد الكاتبان أنّ «هذين النصين متناظران ومتضامنان. لا يهتم الأوّل إلا بالجوانب السلبيّة، ويركّز الثاني على الجوانب الإيجابيّة. لهذا السبب، أظن أنّه يجب أن يكون لهما المصير نفسه: إلغاء أحدهما فقط سيكون خياراً سياسيّاً بحتاً، مع الاستعمار أو ضدّه».
فيرجيس: الفصل بين العبوديّة ثمّ الاستعمار، يُخفي عناصر كثيرة


إدانة العبوديّة من دون مُساءلة الاستعمار، تكشف عن تأويل تاريخيّ «ضروريّ» لبناء رواية وطنيّة تمنح المشروع الاستعماريّ دوراً إيجابيّاً يلغي العنف المنهجيّ وأثر الصدمة في المجتمعات المستعمرة. وينزع هذا السلوك المتضارب في ما يتعلق بالعبوديّة والاستعمار إلى تغييب الارتباط الوثيق بينهما. في حديث خاص، يذهب تحليل فرانسواز فيرجيس، المتخصصة في العلوم السياسيّة والرئيسة السابقة لـ«لجنة ذاكرة الاستعمار وتاريخه»، إلى أنّ الفصل بين المرحلتين (العبوديّة ثمّ الاستعمار) يُخفي عناصر كثيرة.
«العقيدة التي أسست الفصل بين الحقب التاريخيّة الكبرى: عبوديّة، إقطاعيّة، رأسماليّة، تعتقد بتقدّم حتميّ وخطّي نحو الأفضل، أي (نحو) حريّة الفرد، وتخفي حقيقة أنّه يمكن للكثير من هذه الأنظمة أن تتعايش. الفكرة القائلة بأنّ العبوديّة نظام اقتصاديّ متخلف تمّت أيضاً مساءلتها (إريك وليامز في كتابه الكلاسيكيّ «الرأسماليّة والعبوديّة» (2000) أو مثلاً أعمال ماركوس ريدكلر أو سفين بيكرت). أدخلت العبوديّة بالفعل تغيير مسارات الإنتاج وتبسيط مهماته (انظر كيف كانت تعمل المطاحن)، الإنتاج على نطاق واسع (التبغ، القطن، القهوة، السكر) وأنظمة توزيع واسعة. في ما يتعلّق بالعبوديّة، يتحدث سفين بيكرت عن «رأسماليّة حرب» ذلك لأّنّها تعتمد على حرب الغزو (أسر ملايين الأفارقة على مرّ القرون)، والحروب بين القوى، وتوسّع العبوديّة، والمصادرة العنيفة للأرض والعمل. ويمكن القول أيضاً إنّ العبوديّة تستند إلى الاستعمار: استعمار الأراضي والشعوب التي عاشت في الأميركتين والكاريبي (في المحيط الهنديّ، كانت أكبر مستعمرتين تقومان على العبوديّة، أي جزيرتي موريس ولا ريونيون غير آهلتين)».
وفقاً للمؤرخة، من الأفضل الحديث عن الاستعمار الاستعباديّ وما بعد الاستعباديّ، وتحليل نقاط التواصل وإعادة صياغة العبوديّة وكذلك طريقة انتشار هذين الشكلين الاستعماريّين، بالنسبة إلى فرنسا أو بقية القوى الاستعماريّة الأوروبيّة، مع الأخذ في الاعتبار العوامل المحليّة، والتنافس بين القوى، والمصالح الاقتصاديّة والعسكريّة. وتُذكّر أنّه في حالة فرنسا، تفصل 18 عاماً بين استعمار الجزائر (1830) وبين إلغاء العبوديّة وتحويلها إلى مقاطعة فرنسيّة (1848)، «فكرت السلطة الفرنسيّة في هذا التحوّل: ما هي أشكال العمل الجديدة التي يجب فرضها؟ ما هي أشكال الإقصاء الجديدة من المواطنة، من القانون الأسود إلى قانون الأهالي؟ ما هي أشكال التقسيم العرقيّ الجديدة؟ أيّ قوانين جديدة، تنظيم اجتماعيّ، ثقافيّ، اقتصاديّ؟ أي سياسات تجريد من الملكيّة؟
الإمبراطوريّة الثانية التي أنجزت التحوّل بين الجمهوريّة الثانية والثالثة، لم تضع قرارات الجمهوريّة الثانية في موضع تساؤل، حيث صار العبيد المحررون مواطنين، وحظي الرجال بحقّ التصويت، لكنهم ظلوا مُستعمَرين (كانت النساء مواطنات، لكن لم يكن لهنّ الحقّ في التصويت).
رغم الارتباط الوثيق بينهما، يترك الاعتراف بالعبوديّة فضاء لإنكار تاريخ الماضي الاستعماريّ، وهو أمر يترجم إمّا عبر تكرار الخطاب المدحيّ الذي يكسيه لبوساً رومنسيّاً بوصفه حاملاً للحداثة وقيم التقدّم، أو عبر تسليط الضوء على تعقّد الحدث الاستعماريّ والميل نحو الاعتراف بأنّ جزءاً من الطبقة السياسيّة كان واعياً بوحشيّة المشروع، لكنه ينتهي بالقول إنّه لا يمكن اختزاله في هذا البعد. تبدو عبارة «يجب طيّ صفحة الاستعمار» دائماً استفزازيّة، وهي وفق أوليفيه لوكور غراند ميزون، جزء من عناصر اللّغة التي يُحركها المسؤولون السياسيّون اليمينيّون واليساريّون لتعتيم المآلات الماديّة والرمزيّة لهذا الخطاب.
«إذا كان اليمينيّون يتبنون أغلب الوقت نسخة تبريريّة للاستعمار الفرنسيّ، صار يدافع عنها عدد من المثقفين على غرار ألان فنكلكروت وباسكال بروكنر وبيار نورا، من بين آخرين، يُظهر اليساريّون جبناً مدهشاً برفضهم الحديث بصوت عالٍ وواضح في هذا الموضوع رغم أهميّته، لأنّ ذلك يهمّ ملايين الفرنسيّين الذين تعرّض أجدادهم وآباؤهم وأقاربهم للإيقاف والتعذيب و/أو الإعدام من دون محاكمة خلال الحقبة الاستعماريّة». ويُذكّر المتخصصّ بأنّ عدد القتلى في المجازر والصراعات الاستعماريّة التي كانت فرنسا جزءاً منها، بين 8 أيار/ ماي 1945 و19 آذار/ مارس 1962، يقارب المليون، وهو رقم أكبر بكثير من رقم الضحايا الفرنسيّين خلال الحرب العالميّة الثانية، الذي يقدّر بحوالى 600 ألف.
رغم الحقائق الصلبة، «تستمر فرنسا في الصمت وازدراء أولئك الذين تمّ استغلالهم واضطهادهم وسفك دمهم أثناء تاريخها الاستعماريّ الممتد، وورثتهم من الفرنسيّين أو الأجانب»، أوليفيه لوكور غراند ميزون. وعند سؤاله عن تراجع إيمانويل ماكرون الذي، بعدما اعتبر الاستعمار «جريمة ضدّ الإنسانيّة»، غيّر رأيه من خلال تبني النغمة المفضّلة للطبقة السياسيّة الفرنسيّة، أي «طيّ الصفحة»، يُذكّر غراند ميزون من لا يزالون يدّعون أنّ الرئيس الفرنسيّ سيكون تلميذاً للفيلسوف بول ريكور، بأنّ «عليه أن يستلهم مما كتبه (الأخير): إنّه على طريق النقد التاريخيّ تلاقي الذاكرة معنى العدالة. ما هي الذاكرة السعيدة إن لم تكن أيضاً ذاكرة منصفة؟». ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إنّها ذاكرة مؤلمة لأولئك الذين تمّ إقصاؤهم وتنازل فاضح لمصلحة أيديولوجيّي الرواية الوطنيّة ـــ الجمهوريّة الفرنسيّة الكبرى، الذين يفضّلون أسطورة فاسدة على الحقيقة التاريخيّة».
من ناحيتها، تكشف فرانسواز فيرجيس أنّ وراء هذه الدعوات المتكررة لـ«طيّ صفحة الماضي»، هناك رغبة في إلقاء اللوم على الضحايا: «في الكتاب الذي صدر العام الماضي (بيع النساء؛ الرأسماليّة، الردكلة، النسويّة) الذي ألّفتُه حول آلاف عمليات الإجهاض والتعقيم الإجباريّين في جزيرة لا ريونيون في منتصف ستينيّات هذا القرن وبداية سبعينيّاته، أشير إلى الدور الذي قامت به فكرة الاكتظاظ السكانيّ في الخمسينيات في سياق إعادة صياغة الرأسماليّة على مستوى العالم، والهيمنة الأميركيّة، والحرب الباردة وعمليات الاستقلال. يتمثّل الأمر بالنسبة الى الغرب في تحميل نساء العالم الثالث مسؤوليّة البؤس وضعف التنمية. لم يكن ذلك بسبب قرون من الاستعمار والعبوديّة والإمبرياليّة، بل النساء مسؤولات عن ذلك!».
بالنسبة الى فيرجيس، لا تُمثّل عبارة «طيّ صفحة التاريخ الاستعماريّ» مجرّد حجّة في خدمة استراتيجيّة الهيمنة السياسيّة، إنّما تحمل أيضاً شعوراً بالتفوّق، «إنّها تعني: لقد غادرنا، لماذا لا تتقبلون ذلك؟ إنّه خطأكم! ينقصكم شيء ما!»، مستدركةً أنّ «الأمر يرتبط أيضاً بنا نحن، في الجنوب العالميّ، لاحتقار هذه العبارات، لرفض نموذج التنمية الغربيّ وقيود الهياكل العالميّة التي وضعت للحفاظ على تفوّقه: صندوق النقد الدوليّ، البنك العالميّ، المنظمة العالميّة للتجارة، مجموعة الدول السبع، إلخ». هذه هي رؤية فرانسواز فيرجيس التي تؤكد على ضرورة إطلاق قوى ومعارف مجتمعات الجنوب.