أصابت النسبية غالبية الأحزاب والعائلات السياسية، لكن أحداً لم يذق مرارتها مثلما فعل النائب سامي الجميل، لا لشيء سوى لأنه ابن «العنيد»، ويعتقد أن بوسعه خلع عباءة المشيخة عندما يحلو له، ومن ثم قيادة «حركة طانيوس شاهين». فخلص الى إلحاق هزيمة تاريخية بحزب الكتائب الذي انتقل من حزب الـ 10452 كيلومتراً مربعاً إلى حزب الـ 265 كيلومتراً مربعاً على أبعد تقدير.لم يحصل أن تعرّض رئيس حزب سياسي لحملة من النكات مماثلة لتلك التي أصابت النائب سامي الجميل عقب صدور نتائج الانتخابات النيابية.
سامي الجميل هو الحدث الرئيسي في دوائر جبل لبنان الأربع. كل العراضات والمؤتمرات والصراخ والهرولة على المسرح من ناحية الى أخرى، لم تنجح سوى بتقليص حصة الكتائب من خمسة نواب الى ثلاثة فقط، الجميل نفسه والياس حنكش ونديم الجميل. لا بل تصحيحاً، تظهر النتائج الفعلية أن الفوز اقتصر على سامي في المتن الشمالي، فيما نجح حنكش بفعل الكسر الأكبر لا بأصوات الحشود التي تسابقت الى صناديق الاقتراع. فيما ابن عمه نديم الجميل، لم يعوّل أصلاً على القاعدة الكتائبية في الأشرفية، بل على علاقاته الاجتماعية والشخصية كما صرح لـ«الأخبار»، قبيل يوم واحد من موعد إجراء الانتخابات. فضلاً عن أن معركة الحزب تركزت على سامي فقط، ولم تلحظ أياً من مرشحي الكتائب، والدليل تجييره كل الأصوات في المتن الشمالي لمصلحته.
قبيل ثلاثة أعوام، نصب «الشيخ سامي» نفسه رئيساً، وبدأ حملة تطهير أطاحت مخضرمي الحزب ونوابه ووزرائه، ليعلن الثورة المدنية على السلطة التي كان ووالده (أمين) جزءاً منها ويحوّل حلفاء الأمس الى ألدّ أعدائه. بقي الطبع طاغياً على التطبع، فكانت الازدواجية: الشيخ سامي أمين بيار الجميل في قصر بكفيا صباحاً وسامي طانيوس شاهين مع الشبيبة الكتائبية عصراً، معادلة ثبت أنها لم تقنع أحداً سوى ملائكة سامي الذين اعتادوا التصفيق له منذ ترؤسه حزب «لبناننا».
في العادة، ينقلب الحزب على نفسه لتحسين تمثيله وإرساء واقع جديد وأفكار جديدة تواكب نبض الناس، وإلا لا داعي للتغيير. لكن سامي الجميل، أعاد الكتائب في عامها الثاني والثمانين، الى مجموعة صغيرة تشبه «لبناننا»، شكلاً ومضموناً، ولا سيما مع استبعاده كل الكتائبيين وإبقائه على أعضاء «لبناننا» فقط. هكذا، يتحول الحزب التاريخي الى مجرد حقل تجارب لثلة من الشباب المتحمسين في عز مراهقتهم السياسية وفي التوقيت السياسي الخاطئ.

خيارات سامي المحيّرة
هزيمة الكتائب غير المسبوقة أدت، أول من أمس، الى وضع مدير الماكينة الانتخابية ونائب الأمين العام باتريك ريشا استقالته بتصرف المكتب السياسي للحزب. لماذا؟ لأن ريشا كان المدافع الأشرس في بيت الكتائب عن ضرورة التحالف مع المجتمع المدني، وصاحب فكرة قيادة مجتمع مدني رديف عندما رفضت المجموعات وضع يدها بيد سامي الطامح الى تزعمها. رغم ذلك، ظل سامي متصدراً استطلاعات الرأي وخصوصاً عند إقرار الحكومة للضرائب... الى أن تم استدعاؤه الى السعودية على عجل. هنا، بدأ المسار الانحداري لصورة الجميل قبل أن يهوي سريعاً نتيجة وقوع سامي «المدني» في فخ سامي «السلطوي» عبر تحالفه مع حزب القوات اللبنانية في زحلة والأشرفية وتنكره لاتهاماته السابقة لمعراب بتقاسم الحصص مع التيار الوطني الحر.
الضربة القاضية تمثلت بغدر الكتائب للمستقلين وبعض وجوه المجتمع المدني في دائرة بشري ـــ زغرتا ـــ الكورة ـــ البترون قبل انتهاء موعد تسجيل اللوائح بيومين عبر انضمام النائب السابق سامر سعادة الى اللائحة القواتية، ما أدى الى انسحاب المستقلين تلقائياً. في موازاة ذلك، قطع الوزير السابق شربل نحاس الطريق على سامي الجميل في المتن الشمالي عبر تشكيل الأول لائحة مدنية. فعاد الجميل الى مزاولة هوايته المفضلة برئاسة نفسه لنفسه، واضطر بفعل القانون النسبي الى ترشيح الياس حنكش ضمن لائحته كاحتياط في حال نيله الكسر الأكبر.
التخلي عن المستقلين شكل ضربة قاضية للكتائب في أوساط المجتمع المدني


حتى الآن، يصعب على أحد تفسير خيارات سامي: يتحالف مع القوات في الدوائر التي يعرف مسبقاً خسارة مرشحه فيها كزحلة والشمال الثالثة، ويرتضي الانضمام الى لائحة لا تشبه صورته الجديدة في كسروان وجبيل، ويشكل لائحة مستقلة في الدوائر التي كان ليفوز فيها بنائب لو تحالف مع القوات اللبنانية في بعبدا والشوف وعاليه. فضلاً عن أن تحالفه مع القوات في المتن الشمالي كان سيكسب اللائحة أربعة مقاعد على الأقل، ولما كان اقتصر تمثيله على ثلاثة نواب مقابل 10 نواب حزبيين و5 حلفاء للقوات الخارجة من رحم الكتائب.

عهد الهزائم
هناك من يقول إن النسبية عرّت «الكتائب» الذي كان يتلطى وراء تيار المستقبل لنفخ حجمه، كما حصل في عام 2009. اذ انتقل الحزب في عام 2018 من حزب الـ 10452 كيلومتراً مربعاً الى ما يقل عن 265 كيلومتراً مربعاً، الأمر الذي يحتم تغيّر نظرة الداخل والخارج بشأن الحزب. ولا شك أن ذلك سينعكس على وضع الجميل في السعودية والإمارات، حيث سيكون جعجع في مرتبة وهو في مرتبة أخرى تماماً.
أول من أمس، دقت بكفيا أجراسها وبدا واضحاً أن الجميل ذاق طعم الخسارة، ليعلن أن المرحلة المقبلة هي مرحلة الانصراف الى العمل التنظيمي وإعادة «شدشدة» الكتائب. لا بدّ من مراجعة شاملة في حزب تراجع تأييد رئيسه نحو 10 آلاف صوت، ومن 6 آلاف الى أقل من ألفي صوت في كسروان، اضافة الى عدم تمكن مرشحه سامر سعادة من تجيير أصوات بلدته لمصلحته، فيما كان والده يحلّ أول في القضاء.
حتى إن المتن الشمالي، معقل الكتائب التاريخي، لم يعد كذلك مع انحسار مؤيدي بكفيا على البلدة وجوارها وبعض قرى الجرد، بينما يغيب الحزب عن ساحل المتن نهائياً. الخسارتان النيابية والرئاسية ليستا يتيمتين. سبقتهما خسارة كبيرة في الانتخابات البلدية وخسارة في النقابات العمالية وخسارة في الهيئات الطلابية. حصلت كلها في عهد سامي الجميل، كما يقول أحد المخضرمين الكتائبيين، ففي عهد الأب، كان للحزب نقيب مهندسين ونقيب محامين وحضور في مختلف القطاعات. والمفارقة أن أول نائب للحزب تاريخياً كان في عكار، قبل أن تتسع رقعة تمثيل الكتائب الى بعبدا وبيروت وزحلة وجزين والمتن الشمالي. ويشير إلى أنه لا يكفي اليوم «أن نعالج الخسائر بالذهاب الى مؤتمر عام هدفه الأول الاستمرار في سياسة الهروب الى الأمام، فالحزب لا يحتاج الى تصفية كوادر إضافية، بل الى نفضة للخيارات السياسية والشعارات الشعبوية التي لم تأت بأي إضافة». ويسأل «عن الهدف من تنظيم مؤتمر عام إذا لم يكن أساسه تخلي سامي عن الرئاسة أو عقد مصالحات مع كل الكتائبيين الذين سبق للفتى الكتائبي أن استبعدهم لمصلحة أصدقائه في حزب «لبناننا». المدخل الى كل ذلك هو «المحاسبة أولاً. يفترض أن يحدد الطرف الذي يتحمل مسؤولية الفشل. أهو المكتب السياسي أم اللجنة التنفيذية، أم فريق العمل أم الماكينة الانتخابية، أم أمين الجميل الذي سلّم الحزب لابنه من دون الإشراف عليه؟».
لننتظر عودة سامي الجميل من رحلة الاستجمام الأوروبية، بعد طول عناء انتخابي، وباكورتها، أمس، في شوارع بوخارست.