لا يؤخذ على فانسان نوزيل إيلافه «الأسرار» عنواناً ثابتاً للكتب الاستقصائية التي ينشرها. فالصحافي الفرنسي الذي خطّ في قلب المهنة طريقه الاستقصائية، على يمين المشهد الإعلامي، من «الاكسبريس» إلى «الفيغارو»، لا يُكثر من نشر الكتب الاستقصائية التي ينبش من أجلها أرشيف الدبلوماسيين والأجهزة الأمنية، وذاكرة العملاء السابقين التي لم تُكتب. لكن نوزيل يُواظب على عنونة ما ينشر بقصص الأسرار. فبعد «قصة أسرار رؤساء فرنسا»، عاد قبل أسابيع إلى رواية أسرار أخرى، والتاريخ السري للعلاقات الإسرائيلية- الفرنسية.بعض ما يذكره يكاد يكون معروفاً، لكنه يتدرج على نحو قصصي في رواية تاريخ لعلاقة بين إسرائيل وفرنسا في دورة كاملة تكاد تعود إلى نقطة البدء. بدأت بشبق فرنسي للصهيونية التي ارتبطت نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر، بانبعاث العداء للاسامية في أوروبا، كما تجلّت في قضية محاكمة الضابط اليهودي درايفوس الفرنسي، وهو شبق يعود إلى ارتباط الولادة الصهيونية فلسفياً وثقافياً بتلك المرحلة التي طبعت العلاقة مع فرنسا حتى الحرب العالمية الثانية. يمكن اختصار تدرج العلاقة من اشتباك عاطفي مع الصهيونية، إلى تحالف ضد القومية العربية، في الخمسينات، وإسهام فرنسا ببناء قوة إسرائيل النووية كرهاً بجمال عبد الناصر، نصير الثورة الجزائرية ضد فرنسا، فمراجعة للسياسة العربية بعد حرب الأيام الستة، واستبدال التحالف مع إسرائيل التي فضلت أميركا على فرنسا، بتقارب مع العرب حتى التسعينات، ثم عودة إلى التعاون في ظل الرئيس شيراك، ثم نيكولا ساركوزي.
بعض ما جاء في الكتاب، يقوله فانسان نوزيل لـ«الأخبار»: «إنّ العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية، تشبه إلى حد بعيد العلاقة بين ثنائي جهنمي، هام أحدهما بالآخر، ونعما بشهر عسل طويل، بيد أنّه انتهى إلى طلاق عام ١٩٦٧ مع حرب الأيام الستة. بعدها عاش هذا الثنائي الكثير من احتدام مشاعر الإحباط والخيانة، وكأنّهما يحاولان الرجوع إلى شهر العسل. لكن ذلك كان مستحيلاً بسبب عمق الخلاف وكثرة المآخذ. فالسنوات الطويلة من المعاشرة، أخلَت المكان لحلف إسرائيلي مع الولايات المتحدة، ولم تعد فرنسا ذلك الحليف العسكري الإستراتيجي أو النووي. فرنسا هي أيضاً استدارت نحو سياسة عربية عرفت الكثير من الانقلابات، لكنها استمرت بالتقدم مع ذلك لسبب بسيط هو أنّ لفرنسا الكثير من المصالح الاقتصادية والثقافية في المنطقة، وفيها محاور إستراتيجية مهمة، دفعت فرنسا لبناء علاقات ممتازة مع لبنان لأسباب تاريخية ومع المصريين والليبيين والأردنيين والسوريين والسعوديين، ومع أنظمة لا يمكن للوهلة الأولى الزعم أنّها صديقة لإسرائيل».
بعد الارتباط العاطفي جاء التحالف. «في الخمسينات تعززت العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية، على خلفية مواجهة الصعود القومي العربي، وضد مصر عبدالناصر التي كانت تساند جبهة التحرير الوطني الجزائري في كفاحها من أجل الاستقلال. كان هناك تضافر في المصالح بين الدولتين للتصدي لعبدالناصر ولزعامته العربية، في تلك اللحظة اشتدّ عود التحالف الإستراتيجي بين إسرائيل وفرنسا».
كانت فرنسا الدولة الغربية الأولى التي اعترفت بإسرائيل عام ١٩٤٩


هناك تحالف إستراتيجي منذ البدء بين البلدين. كانت الطبقة السياسية الفرنسية تشعر بعقدة الذنب تجاه ضحايا المحرقة اليهودية، بسبب دور نظام فيشي الفرنسي المتعاون مع الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. «نشأ في فرنسا ما بعد الحرب تعاطف ودعم ثقافي وسياسي لمشروع دولة إسرائيل، وكانت فرنسا الدولة الغربية الأولى التي اعترفت بدولة إسرائيل عام ١٩٤٩. وهناك أيضاً التضامن الاشتراكي معها. كان بن غوريون، وجنرالات حرب ١٩٤٨ الإسرائيليين، اشتراكيين».
كانت فرنسا في ظل حكومات الجمهورية الرابعة تحت سلطة الاشتراكيين ويسار الوسط ويمين الوسط، وكان الاشتراكيون، غي موليه، وفرانسوا وميتران، وجان بيار مانديس فرانس، على صلة قوية برفاقهم «العمّاليين» الإسرائيليين. أي دور لعب ذلك في تطوير العلاقة مع «الرفاق في تل ابيب»؟
«كانت العلاقات السياسية قوية جداً، وشهدت المزيد من التقدم حتماً، بفضل الحلف الذي سينشأ بينهم ضد المشروع الوحدوي العربي الذي جسّده جمال عبد الناصر عاماً بعد سيطرته على السلطة في مصر عام ١٩٥٤. كان ذلك العام أيضاً عاماً مهماً لفرنسا إذ صادف انطلاقة حرب التحرير الجزائرية. كان هناك تقاطع في الأهداف بين البلدين، بين إسرائيل التي تخشى عبد الناصر الذي تولّى الاتحاد السوفياتي تسليحه ودعمه دبلوماسياً وعسكرياً، وفرنسا التي كانت ترى في عبد الناصر حليفاً لجبهة التحرير الوطني الجزائري (كانت الأسلحة والأموال تأتي من القاهرة). كان غي موليه، ودافيد بن غوريون، قد اتفقا على محاربة عبد الناصر، وهكذا أصبحت فرنسا المصدر الأول للأسلحة لإسرائيل، وقبل أشهر قليلة من أزمة وحرب السويس».
كانت حرب السويس نقطة الذروة التي ستوثّق هذا التعاون، ومنعطفاً تاريخياً سيجعل من إسرائيل قوة نووية بفضل فرنسا، والعداء لعبد الناصر. «التعاون الاستراتيجي والعسكري بين فرنسا وإسرائيل، سيتحول إلى تحالف من نوع جديد هو التحالف النووي. كانت فرنسا آنذاك تُطوّر سلاحها النووي للحفاظ على موقعها كقوة عظمى عندما طلبت منها إسرائيل إشراكها في برنامجها النووي كي تكون قادرة على تطوير برنامجها الخاص بها للحصول على أسلحة نووية. اتفق غي موليه، وهو رئيس الوزراء الفرنسي، ودافيد بن غوريون، سراً على أن تساعد فرنسا إسرائيل نووياً. شيمون بيريز كان مهندس هذا الاتفاق وعرابه، وهو ما سيُترجم في ما بعد بمشاركة مهندسين وتقنيين فرنسيين بتشييد مفاعل ديمونا الإسرائيلي. لديّ وثائق عن تلك المرحلة من ١٩٥٦ إلى ١٩٦٣ حيث راح يتقدم التعاون السرّي النووي الفرنسي الإسرائيلي، ليُفضي إلى تحالف كامل بين إسرائيل وفرنسا. ينبغي التذكير أنّ شيمون بيريز، كان يمتلك مكتباً له في قلب وزارة الدفاع الفرنسية، وعلاقة مباشرة مع الأركان الفرنسية، وأنّ الجيش الإسرائيلي تزود بالميراج التي ستشكل في ما بعد القوة الجوية الرئيسية لمهاجمة القواعد المصرية في حرب الأيام الستة. مع اتفاق ايفيان عام ١٩٦٢ الذي أنهى الاستعمار الفرنسي للجزائر، بدأ الجنرال شارل ديغول الانفتاح على دبلوماسية عربية من دون الخروج من التحالف المعقود مع إسرائيل».
الجزائر الحُرّة هي التي أنهت التحالف الإسرائيلي- الفرنسي، إذ بدأ ديغول الانعطاف بالسياسة الفرنسية نحو التوازن في العلاقة مع العرب وإسرائيل، بعد اتفاق ايفيان في آذار ١٩٦٢. «نعم، بعد الانتهاء من الأزمة الجزائرية، بدأ ديغول بالتفكير بفرنسا التي ينبغي أن تكون قوة عظمى انطلاقاً من البرنامج النووي، وأنّ باستطاعته استعادة العلاقات التي قطعت مع الدول العربية خلال الحرب في الجزائر، كما باستطاعته أن يلعب دور الحكم بين قطبي الشرق الشيوعي، والغرب الرأسمالي، لأنّها امتلكت السلاح النووي. وهو الدور نفسه الذي كان يطمح للعبه بعد حرب الأيام الستة. وفي عهدَي الرئيسين جورج بومبيدو، وجيسكار ديستان في السبعينات، ساءت العلاقات بين باريس وتل أبيب، إلى درجة اعتبرت فيها إسرائيل فرنسا صديقاً للعرب. كانت العلاقات قد بدأت بالتدهور عام ١٩٦٧، فمنذ اللحظة التي رأى فيها ديغول أنّ إسرائيل هي المعتدي، فرض حظراً على توريد الأسلحة الفرنسية إلى إسرائيل، وسيقول تلك الجملة الشهيرة: اليهود شعب مغتر بنفسه ومهيمن. ساءت الأمور إلى حد أنّ أي مسؤول إسرائيلي لم يزر فرنسا في عهد جورج بومبيدو، وكذلك كان الحال على الجانب الفرنسي. كان الصقيع بدأ يهب على العلاقات الإسرائيلية والفرنسية في السبعينات. وأدرك جيسكار ديستان في ما بعد أنّ القضية الفلسطينية ستكون القضية المحورية لحل النزاع في الشرق الأوسط. ومنذ ذلك الحين بدأ العمل على جعل القضية الفلسطينية، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية جوهر الجهود الدبلوماسية التي تبلورت في إعلان البندقية والدعوة الأوروبية إلى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني (١٩٨٠) وإلى تسوية على قاعدة حل الدولتين».


مع فرانسوا ميتران عادت فرنسا إلى الانفتاح على إسرائيل، مع مواصلة سياسة أسلافه في اعتبار القضية الفلسطينية مركزية في مسار حل أزمة الشرق الاوسط، وتشجيع الفلسطينيين على التفاوض مع إسرائيل، ومساعدتهم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. «بديهي أنّ الحوار كان حوار طرشان خلال سنوات، لرفض إسرائيل اعتبار الفلسطينيين «الإرهابيين» أنداداً مقبولين في قاعة التفاوض. إزاء هذا الموقف الإسرائيلي سيذهب ميتران إلى الكنيست بصفته صديقاً لإسرائيل، ككل زملائه في الاشتراكية الدولية، وسيقول للإسرائيليين لكم الحق بدولة ولكن شعباً آخر له الحق أيضاً بدولة. منذ تلك اللحظة مضت سنوات ميتران على هذا النحو، من دون أن يتقدم كثيراً في سعيه لفرض الاعتراف بياسر عرفات ممثلاً شرعياً للفلسطينيين، ومفاوضاً مقبولاً باسمهم».
جاء مشهد الاشتباك في القدس القديمة التي جعلت من جاك شيراك «عربياً» خالصاً. عندما وبّخ الرئيس الفرنسي أمام الكاميرات شرطياً إسرائيلياً، كانت الشيراكية تتبنى الاستمرار في السياسة العربية لميتران، بالوقوف خلف ياسر عرفات، ضد ايهود باراك، واسحق شامير، وبنيامين نتانياهو. لكن للشيراكية وجهها الآخر الذي يكشف عنه نوزيل. «منذ عام ١٩٩٤، سيعود تعاون أمني فرنسي- إسرائيلي مهم جداً، وسري جداً، ستحصل فرنسا على طائرات إسرائيلية من دون طيار، وسيبدأ تبادل المعلومات الأمنية، والتعاون التكنولوجي والاقتصادي، وسيباشر الطرفان تعاوناً سمياه إستراتيجياً، وستنظم لقاءات دورية بين أركان الجيشين، خصوصاً البحرية والقوات الجوية. وهي علاقات ستبقى وتتطور بمنأى عن كل التقلبات التي ستصيب العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية، خصوصاً بين الرئيس نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. ستزدهر العلاقات أيضاً بين الموساد والشين بيت، والأجهزة الأمنية الفرنسية الثلاثة: الاستخبارات الخارجية، والاستخبارات الداخلية، والاستخبارات العسكرية. لن يؤدي ذلك إلى تحالف استراتيجي بالضرورة، ولكن التعاون سيتعزز في ملفات مكافحة الارهاب، ومنع الانتشار النووي، والملف النووي الإيراني، وسنشهد تعاوناً متقدماً بين الطرفين، لا سيما في ما يتعلق بسوريا وتدفق الجهاديين الفرنسيين إلى سوريا والعراق».
هل ذهبت العلاقات في الملف الإيراني أبعد من تبادل المعلومات، أو إلى التعاون الأمني العسكري؟ «كان الأمر يتطور نحو حلف عسكري أميركي- إسرائيلي- فرنسي، وعملية مشتركة ضد إيران. لم يكن ذلك خطة عسكرية ناجزة، ولكن الأركان الفرنسية والأميركية والإسرائيلية التقت وبحثت فرضية عمل عسكري وخطة للرد عملت على تظهيرها وتطويرها، خصوصاً أنّ الرئيس نيكولا ساركوزي، قد أعلن أنّه لن يساوم على أمن إسرائيل مما يعنى أنّ فرنسا كانت سترد لو تعرض أمن إسرائيل للخطر. وكان قد قال خلال حملته الانتخابية عام ٢٠٠٧، إنّه في مواجهة الخطر النووي الإيراني، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة. وينبغي أن نعلم أنّه خلال تلك الفترة كانت المشاورات على أشدها بين الأميركيين والفرنسيين والإسرائيليين، وحتى البريطانيين. والفرضية التي كانت أكثر تقدماً، هي ليس أن تتعرض إسرائيل لعدوان، وإنّما أن يُبادر الإسرائيليون إلى الضرب أولاً. كان التفكير في باريس وواشنطن يرى أنّه ينبغي منع ذلك، ومن بين الفرضيات التي طرحت لدى الأركان الإسرائيلية خلال الأعوام ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ و٢٠١٠ هو توجيه ضربات وقائية إلى بعض المنشآت النووية الإيرانية، وجرت مشاورات مع الإسرائيليين لثنيهم عن الإقدام على ذلك. ومن بين الفرضيات التي انتشرت آنذاك في ما لو توسع الصراع إلى صراع مفتوح وشنّت إيران هجوماً ما، هو ضم دول عربية معادية لإيران إلى التحالف الأميركي البريطاني الإسرائيلي الفرنسي للردّ على التهديد الإيراني، على رأسها السعودية والإمارات».
التعاون الأمني سيزدهر أكثر فأكثر في عهد ساركوزي. «الأجهزة الأمنية الفرنسية هي التي ستكشف عن وجود مفاعل قم وستنقل المعلومات عنه إلى إسرائيل. المعلومات الفرنسية كانت تحوي عناصر عن عمليات سريّة وأبحاث تطوير نووي في منطقة قم. كانت هناك أكثر من ٣٠ مهمة استخبارية مشتركة حول هذا الملف الذي أجبر الإيرانيين على الاعتراف بوجود ذلك المفاعل. وفي سوريا تعاونت الأجهزة الفرنسية والإسرائيلية، في تحري البرنامج الكيميائي السوري. كانت الاستخبارات الفرنسية عام ٢٠١٠، عشية اندلاع الأزمة في سوريا تراقب أحد تقنيي البرنامج الكيميائي السوري في فندقه الباريسي، قبل أن تستدرجه مع الاستخبارات الإسرائيلية إلى فخ مُحكم للحصول على معلومات عن حجم وتطور الكيميائي السوري الذي سيصبح ملفاً فرنسياً إسرائيلياً مشتركاً».