«سأضع أميركا أولاً… دائماً»، كرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 26 كانون الثاني الماضي، خلال كلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس السويسرية، شعاره الذي كان قد جعل منه دعامة حملته الرئاسية.إضافة إلى غياب استراتيجية واضحة لهذا الرئيس، كانت حتى وقت قريب تُربك الحلفاء قبل الخصوم، لكن لعلّ واحدة من مشاكله الرئيسة أيضاً أنّه لا يُنمّق ألفاظه وخطاباته. فهو لم يخلع عباءة رجل الأعمال على أعتاب البيت الأبيض، ولم «يهذّب لسانه» أو يخفي نياته وراء «الدبلوماسية الأميركية» الزائفة، بل تباهى بنجاح استراتيجيته في «إعادة المال الأميركي إلى أميركا»، من «الحلفاء» قبل «الأعداء».
المحطة الأولى لهذا «النجاح» كانت في أيار من العام الماضي، حين غرّد الرئيس الأميركي على «تويتر»، قائلاً: «أحضرتُ مئات مليارات الدولارات من الشرق الأوسط»، وذلك عقب زيارته «التاريخية» إلى الرياض، حيث عقد اتفاقات قيمتها نحو 400 مليار دولار، كان أبرزها مبيعات دفاعية للسعودية بقيمة 110 مليارات دولار. منذ ذلك الحين، وترامب «يُعِدُّ» لوائحه لمزيد من الأموال من الدول العربية التي تحولت إلى آلة تضخ في الاقتصاد الأميركي مليارات الدولارات. هذه السياسة «الاستثنائية» التي لا ينفك ترامب يُقدّم نتائجها الإيجابية، أمام أنصاره، لن يكون «حلفاء الشرق الأوسط» وحدهم ضحيتها، إذ إنّ للأوروبيين حصتهم، وبخاصة: ألمانيا.
لا تُفوّت إدارة ترامب مناسبة إلا وتذكّر ألمانيا بتخاذلها تجاه حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وتنتقد الشح في الإنفاق العسكري من قبل الدولة ذات أكبر اقتصاد في أوروبا. و«لا حماية مجانية»، يؤكد رجل الأعمال الأميركي، محذراً من عواقب عدم زيادة إنفاق الدول الأوروبية على القطاعات الدفاعية بما يكفي للوفاء بالتزاماتها المالية تجاه «الناتو».
المناسبة الأخيرة جاءت في ختام اجتماع لوزارء خارجية الحلف في بروكسل يوم الجمعة الماضي، حين انتقد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ألمانيا لـ«إنفاقها الضئيل جدّاً» على القطاعات الدفاعية، مؤكداً أن على برلين وجميع الدول الأعضاء في «الناتو» بذل المزيد من الجهود لزيادة الإنفاق، وبالتالي تخفيف العبء عن بلاده التي تسهم بأكبر نسبة من ميزانية الحلف. ولا تزال الدول الأعضاء في «الحلف»، ولا سيما ألمانيا التي يشكّل اقتصادها العمود الفقري المهيمن على اقتصاد القارة العجوز، بعيدة عن الوفاء بالتزام كانت قد توصلت إليه في عام 2014، يحدّد قيمة الإنفاق العسكري بنسبة تبلغ 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
الردّ الألماني جاء سريعاً على لسان وزير الخارجية هايكو ماس، الذي بينما رفض الاتهامات الأميركية التي جاءت قبيل وصول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى واشنطن، لعقد محادثات مع ترامب، فإنه أكّد أن بلاده سترفع إنفاقها العسكري «بشكل تدريجي» من 1.26 في المئة، وهي النسبة الحالية، إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. وهذا ما لمّحت إليه ميركل نفسها خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع ترامب يوم الجمعة الماضي.
تعهّد ماس ليس جديداً، إذ سبق أن أعلنت المستشارة الألمانية، خلال احتفال بيوم الجيش الألماني عام 2016، أنها ستعمل على الوفاء بالتزاماتها، مشيرة إلى أنها في هذا السياق قررت رفع المخصصات العسكرية في الميزانية العامة من 39.2 مليار يورو إلى 43.32 ملياراً حتى عام 2020، في زيادة استعراضية لا أثر حقيقياً لها.
جديّة ألمانيا هذه المرة انعكست في تقرير «مسرّب» نُشِر قبل يومين


لكن هذه المرة لا مكان للاستعراض والمماطلة، وذلك في ظل الضغوطات الأميركية المتصاعدة التي كان آخرها تهديد ترامب في الأول من آذار الماضي، بفرض تعريفة بنسبة 25٪ على الصلب و10٪ على الألومنيوم المستوردين من الخارج، ولا سيما على الشركاء الأوروبيين. سارعت أوروبا إلى استدراك الأزمة، وبعد أيام سمح الرئيس ترامب بتعليق الرسوم على الواردات من الصلب والألومنيوم التي تُستورد من بلدان تُعتبر «شريكة تجارية رئيسية» لبلاده، بما فيها الدول الأوروبية، وذلك عقب إعلان وزير الخزانة الأميركية ستيف منوشن، أن بإمكان هذه الدول تجنّب الرسوم الجمركية إذا قامت بزيادة نفقاتها المالية تجاه «الناتو».
جديّة ألمانيا هذه المرة انعكست في تقرير «مسرّب» نشرته صحيفة «بيلد أم زونتاج» الألمانية الأسبوعية، أول من أمس، كشفت فيه أنّ وزيرة الدفاع الألمانية أورزولا فون دير لاين، طلبت، خلال مفاوضات الميزانية السرية، نفقات إضافية للجيش الألماني بقيمة 12 مليار يورو «للفترة التشريعية الحالية بأكملها».
ووفق التقرير الصحافي، طلبت فون ديرلاين، وهي أول امرأة في التاريخ الألماني تشغل منصب وزير الدفاع، ثلاثة مليارات يورو إضافية لعام 2019، وأربعة مليارات يورو لعام 2020 وخمسة مليارات يورو لعام 2021، في زيادة كبيرة عن المبلغ المنصوص عليه في خطة الميزانية التي قدّمها وزير المالية الألماني أولاف شولتس، وهو 5.5 مليارات يورو.
وأعلنت الوزيرة الألمانية خططاً لتعزيز قدرات الجيش عبر شراء المزيد من الأسلحة والمعدات، مدّعية أن الهدف «ليس التصعيد العسكري في أوروبا وحول العالم، بل تأهيل الجيش الألماني للقيام بمهماته السلمية والإنسانية».
وجاء ذلك في أعقاب تقارير صحافية عن 18 اتفاقية لتسليح القوات الألمانية قيمة كل منها نحو 24 مليون يورو، تضاف إليها صفقة تأجير طائرات إسرائيلية من دون طيار قيمتها 3 مليارات يورو، وشراء 18 راجمة صواريخ وسبع طائرات إنقاذ هيليكوبتر و6 طائرات نقل عسكري من طراز «هرقل»، إضافة إلى أنظمة أسلحة متقدمة.
أما رابطة القوات المسلحة (نقابة تُمثّل أفراد الجيش)، فطالبت من جهتها بزيادة ميزانية الجيش بنحو 15 مليار يورو خلال الفترة التشريعية الحالية (بدأت في أكتوبر 2017 وتنتهي في 2021)، وسط انتشار تقارير صحافية «مسربة» حول «سوء مستوى تسلح الجيش».

الرأي العام: روسيا هي المفتاح؟
«على الدول الأوروبية تحمّل مسؤولية أمنها وإقناع مواطنيها بأهمية زيادة الإنفاق الدفاعي»، قال مايك بومبيو، يوم الجمعة، ملقياً الضوء، عن قصد أو غير قصد، على أهمية «إقناع» الرأي العام الأوروبي، وخاصةً الألماني الذي غالباً ما يوصف بأنّه لا يزال مُكبّلاً بـ«عقدة ذنب النازية».
لكن لتسويق زيادة الإنفاق على السلاح، تحتاج أوروبا عامةً وألمانيا خاصةً إلى «عدو» يشكّل «تهديداً» حقيقياً ومقنعاً. وفي حين نجحت أوروبا في السنوات الماضية في استغلال الفوضى في الشرق الأوسط وأزمة اللاجئين للترهيب من الخطر القادم من الشرق، فإن «الإرهاب» يبدو أنّه بات بمثابة «ورقة محروقة» في ظلّ «انهيار تنظيم داعش في سوريا والعراق». وبالتالي، كان على دول «الناتو» إعادة الروح جدياً إلى خط العداوة القديمة ــ الجديدة مع روسيا. فعلى مدى السنوات الماضية، وتحديداً منذ إشعال الجبهة الأوكرانية عام 2014، تصاعدت الهجمات الإعلامية المعادية لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، الذي اتهمته برلين بالتدخل في انتخاباتها، لتبلغ الهجمات مستويات غير مسبوقة الشهر الماضي، في أعقاب قضية تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته، واتهام لندن لموسكو بالوقوف خلف ذلك.
وعلى الرغم من عدم وجود أدلة تُدين روسيا، دعمت برلين الموقف البريطاني، وشاركت في الترويج للحادثة على أنها، كما صنّفتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، «هجوم عسكري على الأراضي البريطانية». وزعمت ماي أنّ «الروس سبق أنْ استخدموا غازات الأعصاب المصنوعة لأغراض عسكرية في هجمات على الأراضي الأوروبية، ويفعلون ذلك كنوع من الاستهزاء والازدراء والتحدي... واستهانتهم بجديّة أوروبا». جدير بالذكر أنّ موسكو كانت قد حذّرت في أكثر من مناسبة من خطورة الوقوع في «فخ» ترامب والمشاركة في سباق تسلّح لا يصبّ في مصلحة أوروبا والأوروبيين.
على أي حال، فمع تمسّك الأحزاب المعارضة في ألمانيا، مثل «الخضر» و«الاشتراكيين»، ومعهما الرأي العام، بالموقف الرافض لزيادة الإنفاق العسكري، قد نشهد في الأيام المقبلة «قضية سكريبال» بنسخة ألمانية، لعلّها تنجح في تحرير الرأي العام الألماني من «عقد» الماضي وتجعله قريباً من القبول بفكرة زيادة الإنفاق العسكري.