بعد انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية في 23 ايلول 1952، تحرّك موكبه الى المقر الصيفي للرئاسة في بيت الدين كي يستقبل هناك مهنئيه. لم يكن كمال جنبلاط، رفيقه في الجبهة الاشتراكية الوطنية التي اسقطت بشارة الخوري ورشحته لخلافته، بينهم. انتبه الرئيس الجديد الى غيابه مساء ذلك اليوم، فاوفد اليه غسان تويني وبيار اده «الشاهد الماروني» بحسب عبارة النائب الارثوذكسي. كان كمال جنبلاط يشكو من ألم في قدمه، ليس كافياً كي يمنعه من الذهاب الى بيت الدين والمشاركة في التهنئة. في المختارة، كانت اصوات الاسهم النارية والوانها تسطع فوق دير القمر، مسقط الرئيس. قال كمال جنبلاط لزائريه، وهو يتمشى في الباحة بعدما سألاه عن تغيّبه: لا اقدر. انظرا.وتوجّه بهما صوب سماء دير القمر مضاءة، وقال: هل انتخبناه من اجل ان يأتي هؤلاء؟
ردّ غسان تويني بسؤال: هل تتوقع ان لا تطلق دير القمر سهماً نارياً واحداً بعد انتخاب زعيمها رئيساً؟
عقّب كمال جنبلاط: بسيطة اذا القصة سهم ناري فقط. لكن ماذا بعد؟ إنتظر قليلاً وسترى اكثر.
سأل مجدّداً: هل تعتبر انتخابه انتصاراً مارونياً؟
اجاب تويني: يمكن ان يكون كذلك. لكن ما يزعجك في ان يكون انتصاراً مارونياً؟
قال: لست منزعجاً. ما اخشاه ان يتصرّف جماعتنا في المقابل على نحو لا يقل عما يحصل هناك.
عندما عادا الى بيت الدين، اخبر غسان تويني وبيار اده الرئيس بتعذّر مجيئه بسبب ألم في القدم.
ردّ شمعون: معي خبر. يعرج من قدمه. أليس كذلك؟ ومن شيء آخر ايضاً. لا تخافا عليه.
في الغداة، زار كمال جنبلاط الرئيس في بيت الدين وتعشيا مع زوجتيهما، وامضيا ساعات على احدى شرفات القصر يناقشان المرحلة الجديدة. اختلفا مع طلوع الفجر على الحكومة الاولى وبرنامجها الاصلاحي، وتبنيها خطط الجبهة الاشتراكية الوطنية، ومحاكمة بشارة الخوري. مذذاك انفصلا، وتحوّلا تدريجاً الى اكثر من خصمين سياسيين في رقعة واحدة. بدوا اقرب الى عدوين يتنافسان على زعامة واحدة هي الشوف. الا ان اياً منهما لم يسعه الاستئثار بها في مرحلة اولى خلال ولاية كميل شمعون الذي اسقط ندّه في انتخابات 1957، ثم في عهد فؤاد شهاب الذي حمل كميل شمعون على نقل ترشحه الى المتن في انتخابات 1960 ثم اسقاطه في انتخابات 1964.
جنبلاط يزيل العقبات من طريق الابن بإعادة وصل ما انقطع


دامت زعامة الرجلين على الشوف، عالقة على العداء، طوال عقدين ونصف عقد من الزمن ختمها اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط عام 1977.
حتى آخر انتخابات نيابية خاضاها عام 1972، كانا زعيمي الشوف. لكل منهما حصة مؤثرة في الناخبين الدروز والموارنة والسنّة. في اول انتخابات نيابية بعد الحرب عام 1992، كان قد اضحى للشوف زعيم واحد هو وليد جنبلاط. في ظل تحالفه مع سوريا، امسك جنبلاط بالارض بعد حرب الجبل عام 1983 وكانت شريكه في توجيه فوهات الدبابات، وامسك بالشارع ومقاعد البرلمان في مرحلة اتفاق الطائف. راح يأتي بالنواب الموارنة الثلاثة والنائب الكاثوليكي والنائبين السنّيين (ثم بالتفاهم مع رفيق الحريري لاحقاً).
في انتخابات 2005، بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة، وافق وليد جنبلاط على ضم مرشح القوات اللبنانية جورج عدوان وحده الى لائحته، في سياق ما عُدّ تحالف قوى 14 آذار واحتفظ بالمقعدين المارونيين الآخرين. في انتخابات 2009، وسّع البيكار قليلاً وضم الى لائحته جورج عدوان ودوري شمعون واحتفظ بالمقعد الماروني الثالث. في انتخابات 2018 الوشيكة، ثمة تحوّل غير مسبوق. لم يتخلَّ عن المقعدين المارونيين لجورج عدوان وغطاس خوري فحسب، بل تحالف مع مرشح ماروني ثالث غالباً ما خاض الانتخابات ضده في الشوف هو ناجي البستاني. وهي المرة الاولى ايضاً لا يكتفي وليد جنبلاط بالاستغناء عن المقاعد المارونية الثلاثة، وكانت في حسبانه في الحقبة السورية في منزلة المقعدين الدرزيين، بل راح يقارب علاقته بدائرة الشوف على نحو مغاير، اذ يترك المقاعد المارونية الى الموارنة، من غير ان ينبئه جورج عدوان ودوري شمعون في انتخابات 2005 و2009 ـ بأصواته هو في الاقتراع الاكثري ـ بأن اياً منهما زعيم ماروني صاعد في الشوف، او في احسن احوال «مشروع كميل شمعون صغير».
على مر السنين المنصرمة منذ انتهاء الحرب، ظل وحده حاكم الشوف مع توجس متدرّج صوب اقليم الخروب من تصاعد ارقام الناخبين السنّة ومقاسمة رفيق الحريري ثم نجله سعد له في احد المقعدين السنّيين. يذكر كثيرون ان وليد جنبلاط غالباً ما تذمّر من السوريين حينما كانوا يفرضون مرشحاً على لائحته كزاهر الخطيب، ثم يقبل على مضض بعد ان يجهر برفضه ويساوم. وحده تقريباً من سائر القيادات، فصّلت دمشق ثلاثة قوانين انتخاب وفق ما يرضيه، وبالذات ابقاء جبل لبنان الجنوبي اقضية مستقلة (1992 و1996) او دمج اثنين في واحد (بعبدا ـ عاليه 2000)، وصولاً الى اليوم يُصغى الى ارادته في ضم عاليه الى الشوف. نواب السنوات تلك ليسوا الا من صنعه هو.
ليست ثمة علاقة جمعت وليد جنبلاط بناجي البستاني، خلافاً لماض طويل بين البيتين. المطران اوغسطين البستاني الذي ينتمي اليه ناجي البستاني صديق تاريخي للمختارة منذ الست نظيرة مروراً بكمال جنبلاط، حتى وفاة الاسقف المهاب عام 1957. في عقدي الاربعينيات والخمسينيات، كان في صلب التنافس على زعامة الشوف مع كميل شمعون. صداقته للبيت الجنبلاطي احالته خصماً له. مع غياب المطران البستاني، استأثر كميل شمعون بالزعامة. على مر علاقته بالرئيس، لم يتردد اوغسطين البستاني، الواسع النفوذ، في ارسال اشارات سلبية اليه. اعتادا تبادل تقاليد موقعيهما: عندما يقرّر رئيس الجمهورية الانتقال الى المقر الرئاسي الصيفي في بيت الدين ـ وفي البلدة دار المطرانية ـ اول ما يقوم به في الاحد الاول حضور القداس في كنيسة مار مارون في بيت الدين، ثم في الاحد الثاني يزور الاسقف الرئيس. تقليد اتبع منذ ايام بشارة الخوري.
حينما نشب خلاف بينهما عام 1954، تمارض اوغسطين البستاني وانتقل من دير القمر الى فيطرون، ومنع مساعده الخوري انطون خريش من ترؤس قداس يحضره رئيس الجمهورية. في حصيلة جهود مصالحتهما، تقرّر ان يزور كميل شمعون المطران في داره، من ثم يزوره اوغسطين البستاني. في نهار استقباله الرئيس، ذلك الاحد، تمارض الاسقف الثمانيني، فأُرغِم رئيس الجمهورية على الصعود 40 درجة الى جناحه كي يستقبله فيه، لا في صالون المطرانية. انتهى الامر بأن اطرى كميل شمعون مضيفه، وقد التقط علامة التسوية وارضائه.
انتقلت علاقة البيتين الى كمال جنبلاط واوغسطين البستاني بعد وفاة الست نظيرة عام 1951 حتى غياب الاسقف. من ثم استكملت بينه ونبيه البستاني المدّعي العام التمييزي (1961 ـ 1968). ما رواه القاضي الكبير ان مرة واحدة خالف القانون ارضاء لكمال جنبلاط. صدرت مذكرة قبض على نعمة الله بجاني احد انصار الزعيم الدرزي، فاختبأ في بيته في فرن الحطب في المصيطبة. بايعاز من مجيد ارسلان، رصد عناصر في الامن العام تحرّك المطلوب المختبىء. ما ان خرج من بيت كمال جنبلاط الى شارع مار الياس اوقفوه. خابر كمال جنبلاط نبيه البستاني طالباً تدخّله، فاستجاب: حضور المطلوب الى المحكمة، من ثم اطلاقه. كان تعليق نبيه البستاني يومذاك على هذا التصرّف: كانت المخالفة الوحيدة في حياتي القضائية. ما حدث اهانة لكمال جنبلاط من خلال القاء القبض على الرجل بالطريقة تلك. ليس من اللائق اهانة المقامات والكرامات.
مع ان هذا الجب في بساتنة دير القمر يقترعون لكمال جنبلاط، وضد كميل شمعون، ترشح ناجي البستاني للمرة الاولى عام 1972 منفرداً وخسر، في مواجهة لائحتي كماشتي الشوف في آخر انتخابات يخوضانها: كميل شمعون وكمال جنبلاط. لم تنتقل العلاقة في ما بعد الى وليد جنبلاط والابنين ناجي وزاهي. مع الاول، خلاف انتخابي مع ترشح ناجي البستاني مرتين ضده في انتخابات 1996 و2000 يرئس لائحة مكتملة بما فيها المقعدان الدرزيان، ومع الثاني، خلاف سياسي ناجم عن تناقض المواقع في خضم الحرب ومكانة زاهي البستاني الاول بين مساعدي بشير الجميّل صاحب الكلمة المسموعة والمؤثرة. اضف سبباً آخر مهماً وراء القطيعة هو ان وليد جنبلاط اتهم زاهي البستاني بمحاولة اغتياله في الاول من كانون الاول 1982 في شارع كليمنصو بوضع متفجرة له. سرعان ما تحقق من انه ليس هو، ووجّه اصابع الاتهام الى الياس حبيقة وميشال سماحة.
في مهرجان اعلان «لائحة المصالحة» في الشوف، 24 آذار 2018، برئاسة تيمور جنبلاط، ذكّر ناجي البستاني اباها الروحي، وليد جنبلاط، انه كان السبّاق الى هذا الشعار، عندما سمى لائحته هو في انتخابات 2000 «الشوف للجميع»، قائلاً له: ها انت الذي يأتي الى شعاري. المغزى نفسه للائحة اليوم. على مرّ دورتي 1996 و2000، بدا من الصعوبة بمكان له الفوز في ظل التصويت الاكثري.

جنبلاط يفضّل التعاون مع شخصيات مارونية مستقلة على ممثلي أحزاب


بيد ان الخيارات الجديدة للزعيم الدرزي، اليوم، تستحق المجازفة:
1 ـ تأمين انتقال الزعامة الى تيمور تدريجاً، بدءاً بمجلس النواب. تبعاً لذلك، رفض اقتراح مروان حمادة توريث ابنه كريم مقعده هو الآخر. وجهة نظر الزعيم الدرزي ان الطائفة لا تحتمل توريثين في آن. الاولوية لتيمور. وطلب من مروان حمادة الترشح مجدّداً، آخذاً في الحسبان ان ترشيح كريم حمادة من شأنه تعريض اللائحة للاختراق في المقعد الدرزي الثاني.
2 ـ يحرص على ايصال نجله قوياً الى البرلمان، وتالياً تقدّمه على سائر رفاق اللائحة من خلال الاصوات التفضيلية بين يدي الاب، وتقدّر بنحو 28 الف صوت درزي من 36 الفاً. هذا الكمّ من الاصوات لا يسعه منحه لمرشحي الشوف جميعاً لتسهيل انابتهم كما في ظل التصويت الاكثري. يعطي تيمور اولاً، ثم مروان حمادة الفي صوت لضمان فوزه، ثم نعمة طعمة مرشحه المسيحي الوحيد نحو ثلاثة آلاف صوت. لا يريد وليد جنبلاط لتيمور تكرار سابقة 2000 عندما تقّدم عليه مروان حمادة بأصواته 51441 في مقابل 50723 له، فاذا ذاك رأس اللائحة.
3 ـ يرغب في ازالة العراقيل والعقبات، اضف خصوصاً الخصومات السياسية، من طريق نجله في طريق صعوده السياسي. في ذلك مغزى اطلاق حركة الوارث: بعدما تحوّل الى مرجعية في المختارة يستقبل ويلبي حاجات طالبيها، ويمشي وراءه وزراء الحزب ونوابه لدى زياراته المسؤولين والقيادات كما لو ان علاقات والده كلها انتقلت اليه مع رئيس المجلس نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري وسواهما، ها هو الاب يخرجه من مآزقه السياسية وخصوصاً في العلاقة مع الخصوم كحزب الله في مرحلة تطبيع شامل، في معزل عن موقفه من الحرب السورية ورئيس نظامها. ليس سرّاً ان حزب الله لم يحيّد في مواجهته تيار المستقبل في كل الدوائر الانتخابية التي يشتركان فيها، سوى في الشوف ـ عاليه التي للتيار مرشحون في لائحة تيمور جنبلاط.
4 ـ بكثير من الواقعية، ينظر جنبلاط الى الشوف على انها دائرة تتسع للجميع، مع انه اقرب الى التعاون مع شخصيات مارونية مستقلة ذات حضور تمثيلي وشعبي، اكثر منها ممثلي احزاب قلما يؤمن بجدوى التعاون معها. الا ان هذه برهنت له حتى الآن، بعد اخفاق تجربتي جورج عدوان ودوري شمعون، ان احداً منهما لا يصلح لبعث الثنائية المارونية ـ الدرزية التي مثلها كميل شمعون وكمال جنبلاط. على ان التيار الوطني يطمح هذه المرة ـ بعدما نافس مرشحوه وليد جنبلاط في دورتي 2005 و2009 وفشلوا ـ الى التحوّل قطباً جديداً في المعادلة الجديدة. الواقع ان الاصوات التفضيلية المسيحية، وخصوصاً المارونية، هي صاحبة الفضل في الانابة.