في الناصرة الفلسطينيّة، يقوم أهل العروس بتوزيع دعوات حفل الزفاف بأنفسهم. كلّ مدعوّ يتلقّى الدعوة في بيته. هذا تقليد اجتماعي مقدّس. «الواجب واجب» على الطريقة النصراوية. «شادي» (صالح بكري) يعود من روما إلى مسقط رأسه، لمساعدة والده (محمد بكري) في تسليم الدعوات، وتحضيرات عرس أخته (هما أب وابن في الواقع أيضاً)... يستقلّان الفولفو القديمة. يجوبان المدينة العتيقة. يدخلان بيوت عائلاتها. يعاينان أحوال ذات ومجتمع. يصدّران اختلاف أجيال تجاه قضايا ومفاهيم. ذلك أنّ تمضية يوم كامل على مقاعد السيّارة، يجبرهما على ما لم يعتادا فعله حقيقةً: التواصل.فرضية بسيطة ينطلق منها «واجب» (2017 ــــ 96 د. يطرح الخميس في «متروبوليس أمبير صوفيل») لآن ماري جاسر (1974)، في ثالث أفلامها الروائيّة الطويلة، بعد «ملح هذا البحر» (2008 ـ 109 د.) و«لمّا شفتك» (2012 ــ 94 د.). عموماً، تضمّ فيلموغرافيا الفلسطينيّة الدؤوبة أكثر من 16 شريطاً، تتنوّع بين وثائقي وروائي قصير وطويل، وبين إخراج وسيناريو وإنتاج تحت جناح جهات أبرزها «أفلام فلسطين» Philistine Films، التي شاركت في تأسيسها عام 1997. الشركة تسهم في إنجاز أفلام مستقلة. كذلك، تنظّم ورش عمل في الإخراج، وكتابة السيناريو، وتدريب الطاقم الفني.


نشأة جاسر أكثر من لافتة. تطوّرها حافل بنجاحات تاريخيّة ريادةً وأرقاماً على المستوى الفلسطيني. تشكّل مبعثر بين مدن عدّة، منها بيت لحم والرياض، قبل الانتقال إلى أميركا. في تلك الحقبة، يدشّن ميشيل خليفي (1950) «السينما الفلسطينيّة الجديدة»، من خلال تسجيلي «الذاكرة الخصبة» (1980 – 100 د.)، ثمّ روائي «عرس الجليل» (1987ـــ 112 د.). بالتوازي، تبدأ آن ماري رحلةً مسرحيّة تصميماً وكتابةً وإخراجاً. تنتقل إلى السينما كمساعدة إنتاج، ثمّ مونتيرة ومصوّرة. تنال شهادةً في الإخراج السينمائي من جامعة كولومبيا. شريط التخرّج «كأنّنا عشرون مستحيل» (2003 ـ 17 د.) سيكون أوّل فيلم عربي قصير في «مهرجان كان السينمائي» (قسم أفلام الطلبة)، قبل بلوغ نهائيات الفئة نفسها في جوائز الأكاديمية المانحة للأوسكار. شريط مخاتل بين التوثيق والخيال. يرافق فريق تصوير سينمائي في عبور حواجز الاحتلال بعسفها وتسلّطها. بين 2001 – 2006، تشارك جاسر في تنسيق مهرجان السينما الجوّال «أحلام أمّة»، لعرض أفلام محليّة في المدن والقرى، والتغلّب على صعوبات تنقّل الفلسطينيّين وتوزيع أفلامهم. نشاط ضمن مشروع يحمل الاسم نفسه، بهدف إنشاء قاعدة بيانات بالفيلموغرافيا الفلسطينيّة. من أعمالها في تلك المرحلة أيضاً: «تاريخ ما بعد أوسلو» (2001ـ 8 د.)، والتجريبي القصير «أصوات الشارع» (2006ـ 3 د.).
الآن، يأتي التحوّل المنتظر. آن ماري جاسر تصبح أول فلسطينيّة تصنع روائياً طويلاً بعنوان «ملح هذا البحر». تستحضر ذكرى نكبة 1948 ومجازرها، عبر عودة «ثريّا» (سهير حمّاد) من بروكلين إلى رام الله، وتعرّفها إلى «عماد» (صالح بكري). يمكن اعتبارها أنا أخرى alter ego لآن ماري. ثنائية جاسر – بكري ترجع في «لمّا شفتك»، الذي يقفز بالزمن إلى هزيمة 1967 وآثارها الكارثيّة، معيداً الاعتبار إلى الكفاح المسلّح. أفلام سجالية، طازجة، دافئة، زاخرة بالحميمية والتفاصيل. تخرج من اليومي المعيش، لتعود إليه. تبقى ضمن مطلق الحياتيّة، من دون تصعيد حاد أو انعطافات دراميّة صادمة. لا تساوم الاحتلال، الذي لا يُكرّس بالتقادم. لا تمسّ بديهيات قضيّة، مع تفهّمها لظروف التعامل المفروض قسراً. في «ملح هذا البحر»، تقول «ثريّا» بغضب: «هو احتلال». يأتي الجواب الجوهر: «مش من جوّا».


عناوينها تفتتح في كان وبرلين ولوكارنو. تشارك في البندقية وتورونتو ولندن ومار ديل بلاتا. تتوّج في دبي وقرطاج وأبو ظبي ولوكارنو وسان سيباستيان وبالم سبرينغز وشيكاغو. دائماً ما تمثّل فلسطين في تصفيات الأوسكار. نادراً ما يمكن لصانعة عربيّة أن تحقق مكانةً ملهمةً كهذه.
نعود إلى «واجب» المفتوح على مستويات القراءة بطبيعة الحال. في الاجتماعي، ثمّة العلاقة الحسّاسة والمغرية للرصد بين أب تقليدي وابن «خارج الصندوق»، ضمن مجتمع صغير، ومدينة «خانقة» تقدّس العادات والتقاليد. «أبو شادي» مدرّس قديم، طامح إلى منصب مدير المدرسة. ولده مهندس معماريّ، آتٍ من انفتاح أوروبي، وعلاقة مع ابنة مناضل قديم. خلفية قائمة على تربية محافظة. وصاية أبوية معتادة. تفاعل هش. العقد الأسري المتعارف عليه في المجتمعات العربيّة. كونهما مسيحيين لا يغيّر شيئاً. هما لم «يتواصلا» بالمعنى الفعلي طوال حياة كاملة. لم يناقشا أموراً شائكة، مثل قيام الأم بترك العائلة من أجل حبيب آخر. لا جديد في إخفاء الغبار تحت البساط. كيف سيظهر كلّ ذلك عند الانفتاح والمكاشفة؟
إخراج هادئ بعيداً عن الاستعراض وإدارة ممتازة للممثّل


إذاً، السيارة شخصية ثالثة. سجن في نظر الابن. ما تبقّى من ماضٍ جميل بالنسبة إلى الأب. تتّسع لكثير من المشاهد والمواقف. حوارات الأخذ والرد حول العائلة، والمكان، والمساكنة، والموضة، والميول الجنسيّة، وحتى صوت المطرب في عرس «أمل» (ماريا زريق). الشاب متذمّر من عقل جمعي متخلّف، من قمامة الطريق، من ذوق السكّان المخرّبين لعمارة إحدى أقدم مدن العالم بالشوادر وكراسي البلاستيك. أكثر من ذلك. هو غاضب من موقف والده المتساهل تجاه الاحتلال. إصرار الأب على دعوة إسرائيلي إلى الزفاف، يرفع الغطاء عن الكثير من المسكوت عنه. يحيل على ما يتعلّق بفلسطينيي الداخل والخارج أولاً، وعلاقتهم بالاحتلال ثانياً. مستوى آخر من الشريط، الذي يُحسَب له الاهتمام بهواجس ويوميات القاطنين داخل الخط الأخضر. هم عرب مضطرون إلى حمل أوراق إسرائيليّة. حساسية وضعهم مثار جدل دائم. نلمس بعضه في التعاطي مع السينما التي يصنعونها. أيضاً، هم بشر الحب، والكره، والرغبة، والنميمة، والنفاق الاجتماعي، والتباهي بدراسة الطب أمام البقيّة. «أبو شادي» من جيل عاش تحت إمرة الحاكم العسكري. سلّم بضرورة المرونة والتنازل النسبي، من دون أن يعني ذلك قبوله بالاحتلال في داخله. فضّل العيش الآمن، لتربية ولديه «أمل» و«شادي» الذي لم يكن سرّ أبيه. على العكس، لم يُخفِ الشاب كره عدوّه. شارك في تأسيس نادٍ سينمائي لعرض أفلام مناهضة له. سارع الأب إلى إرساله خارجاً خشية اعتقاله. هكذا، تقفل الدائرة على التباس العلاقة، والجدل بين الجيلين. ابن فاقد لكثير من الاحترام تجاه والده. هذا الأخير حريص على ابنه بأيّ ثمن، متأثّراً بجرح قديم من الأم. يغلّف كل ذلك حبّ كبير غير مشروط. الحب كلمة السر. نقطة القوّة الأبرز. محرّك كل تلك المشاعر المركّبة.


«واجب» فيلم طريق (النصف الثاني من «ملح هذا البحر» كذلك). الجانب الأبرز في معاينة المحيط بشراً وحجراً. مغلّف بسخرية مريرة في مواقف، وحزن بالغ في أخرى. الناصرة شخصيته الرابعة بعمارتها ومناخها الذي لا يشبه سواه. الاحتلال لا يظهر مباشرةً، لكنّنا نشعر بجحيمه طوال الوقت. تمرّ إحالات سيميولوجيّة مقصودة، مثل نصب نجمة داود وسط المدينة، لدى ذكر جرائمه. موقف آن ماري جاسر صارم. لا يحتمل تمييعاً أو مواربةً. إسرائيل «دولة» عنصريّة، قمعية، عصابية، قائمة على الإلغاء والاستعباد وتزوير التاريخ. لا تمانع علاج مسلّحي داعش الآتين من سوريا في مشافي «الشمال». مجتمعها مهووس بالأمن. يرتاب في كل وأي شخص/ شيء. السبعينيات «أيّام العز». فترة النضال النظيف المفتوح للجميع، من دون احتكار ديني أو عقائدي. ثمّة تحيّة كبيرة لذلك في «لمّا شفتك». في السياق، هناك كثير ممّا يتقاطع مع فيلموغرافيا آن ماري. سدّ الأفق في وجه الفلسطينيّين، وتسهيل هجرتهم للاستفراد بالأرض. الباسبور الآخر لا يعني معاملةً أفضل. هم موضع اشتباه دائم. تتعاقب الأجيال، فيما يبقى المحتل. الراديو يبثّ جرائم وبروباغندا الصهاينة طوال الوقت. القطط المتجوّلة في الأزقة العتيقة...
كالعادة، تقترح آن ماري إخراجاً هادئاً، بعيداً عن الاستعراض. إدارة ممتازة للممثّل. مشهد المواجهة الأخيرة رائع بمعنى الكلمة (جائزة أفضل تمثيل مناصفةً بين محمد بكري وصالح بكري في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الأخير). من المعروف أنّ آن ماري جاسر تكتب الشعر أيضاً. حالياً، تسعى إلى استعادة منزل أجدادها، لتحويله إلى مركز ثقافي للفنون والبحوث. فعلاً، كم تشبه «ثريّا»، التي حاولت استرجاع بيت جدّها في يافا، على أمل أن تحظى بنهاية مغايرة.

* «واجب»: بدءاً من الخميس المقبل في «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/204080