هل يمكن الحرب أن تقدّم خدمةً لمدينة حلب القديمة؟ قد يبدو السّؤال تهكميّاً للوهلة الأولى، غير أنّ ما يشهده موقع «باب النّصر» التاريخي يجعل طرح سؤال مماثلٍ أمراً مشروعاً. وباب النصر هو واحدٌ من أربعة أبواب ما زالت معافاةً من بين أبواب حلب التاريخيّة (إضافة إلى أبواب: أنطاكية، الحديد، قنسّرين. فيما طاول خراب كبير باب المقام، من دون أن يقوّضه بالكامل). ظلّ باب النصر غائباً عن عيون الحلبيين، إلى حدٍّ جهل معه كثيرون من أبناء المدينة وجود الباب، على رغم أنّه قائمٌ في مكانه منذ أن أعاد الظاهر غازي بناءه (في القرن 13 ميلادي) على أنقاض «باب اليهود» الذي هدمه لأنّه «استقبحَ اسمه»! ولسنوات طويلة كان الباب التاريخي محتجباً عن الأنظار بسبب عشرات من المخالفات والإشغالات (أكشاك معدنيّة، ومستودعات قرطاسيّة خاصّة) فيما وضع أحد شاغلي المحال قفلاً على دفّتي الباب! في آب الماضي أثار المحامي والباحث علاء السيد القضيّة، وبدأت رحلة شاقّة لعدد من المتطوعين في سبيل الكشف عن الباب وإزالة الاشغالات، بدأت بالحصول على مخططات هندسية وبيانات للموقع. أثمر التواصل «الودّي» بين السيد والشاغل المذكور قيام الأخير بإزالة مخالفاته، بعد أن سلّم بأن «البيانات العقارية تُثبت له حقّاً في بعض المحال الموجودة من دون أن تخوّله إغلاق الباب وإشادة مخالفات داخله». وتمّت إزالة الأكشاك المعدنية وبعض التشوهات والمخالفات الأخرى بموجب قراراتٍ بلديّة وآثارية.
ملخّص ما أُنجز
شكّل المتطوعون ما أسموه «مجموعة أصدقاء باب النصر»، ودشّنوا ورشة مستمرّة لإنجاز بعض الأعمال العاجلة، بإشراف «مديرية الآثار» و«مديرية المدينة القديمة» في حلب. تكفّل «أصدقاء باب النصر» بتغطية نفقات أعمالهم، وأنجزوا بعض الأعمال (التي لا تحتاج إلى مختصّين) بأيديهم لضغط النفقات. حصلت المجموعة على الموافقة اللازمة لتصدّيها للأعمال الترميمية من «لجنة حماية حلب القديمة» (يترأسها المحافظ وتضمّ جميع مدراء الدوائر الرسمية المعنيّة). وفي خلال الشهور السبعة المنصرمة أُجريت إصلاحات إسعافيّة، ورُحلت الأنقاض والأتربة، وأعيد تأهيل أرضيّة الموقع عبر رصفها ببلاط تاريخي قديم (كلسي أبيض قاس) وبمواد تقليدية خالية من الإسمنت وما شابه. أدّت عمليات التنظيف وترحيل الأنقاض إلى عدد من الاكتشافات الهامّة، من بينها فتحتان خلف بابين متتاليين من أبواب البرج الأثري (أحد البابين زائل منذ عقود طويلة، أما الآخر فموجود). يبلغ عمق كلّ من الحفرتين أربعة أمتار، ويبدو أنّ وظيفتهما كانت تحصينيّة عبر إدخال جذع خشبي في كلّ منهما بعد إغلاق البابين، للحيلولة دون اقتحامهما. وكشفت أعمال التنظيف عن كتابة إغريقيّة محفورة على حجرٍ تاريخي له حكاية مجهولة.
المدير العام للآثار والمتاحف: احتمال إيقاف الأعمال قائم تبعاً للأولويّات

كذلك؛ تم الكشف مصادفةً عن درجٍ أثري داخل البرج، كان مغلقاً منذ مئات السنين (التقديرات المبدئية تشير إلى 8 قرون، من دون جزم نهائي بعد)، وقاد الدرج إلى سطح البرج الأثري. كذلك؛ ظهرت مؤشرات على وجود باب سرّي يصل بين البرج وبين السور الشمالي لمدينة حلب التاريخيّة، غير أنّ أعمال الكشف عنه لم تُنجز لعدم صدور الموافقات اللّازمة. بعدها بشهرين اكتُشفت فجوة مضلّعة غريبة الشكل خلف الباب الخشبي التاريخي. وفي آذار الماضي لعبت المصادفات دوراً جديداً في الموقع ذاته، حيث قادت أعمال حفريات تقوم بها شركة الكهرباء في الشارع الرئيسي الملاصق للموقع (جادة الخندق) إلى اكتشاف فتحة صغيرة اتّضح لاحقاً أنها تقود إلى رواق أثري مقبّب تحت الأرض (بعمق متر واحد)، وتمتد تحت الشارع (أملاك عامة) باتجاه الموقع التاريخي. في الخامس من الشهر الجاري انتهت أعمال تنظيف وإزالة ردميّات الرواق (حوالى 60 متراً مكعباً من الردم)، وتم توثيق الغرفة المكتشفة (طول 5 أمتار، عرض 2.30 متر، ارتفاع 3.5 متر)، كما اكتُشفت قنطرة داخل الغرفة، يُرجح أنها واجهة لبوابة تقود نحو الخندق شرقاً.

ماذا بعد؟
في خلال زيارة الموقع، سألت «الأخبار» عن الخطوات المقبلة فيه. أكّد المحامي علاء السيد أنّ الأمر منوطٌ بما تقررّه الجهات الرسميّة المعنيّة. حملنا السؤال إلى المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا محمود حمّود، الذي أوضح أنّ «المديرية تنتظر تقريراً مفصّلاً من مديرية آثار حلب، لتبني على الشيء مقتضاه». ولدى سؤاله عن احتمال إيقاف الأعمال حاليّاً، أكّد أنّ «الاحتمال قائم، تبعاً لما قد تفرضه الأولويّات، فالموازنة في المرحلة الراهنة مخصصة في الدرجة الأولى لأعمال التصليح والترميم لا لعمليات التنقيب». بدوره، أوضح مدير آثار حلب أكرم قركلا لـ«الأخبار» أنّ محافظ حلب قد شكّل لجنةً تضم ممثلين عن «الآثار، مدينة القديمة، الأوقاف، المحافظة، والمجتمع المحلي». المفارقة أنّ مجموعة «أصدقاء باب النصر» لم تُمثّل داخل اللجنة التي شُكّلت منذ أربعة أشهر تحت مسمى «لجنة إظهار باب النصر»! وحتى اليوم لم تقم «اللجنة الرسميّة» بأي إجراء عملي ملموس. يقول قركلا إنّ «الخطوات المقبلة يمكن تحديدها بعد أن ترفع اللجنة تقريرها بنسختين إلى المحافظ والمديرية العامة للآثار والمتاحف»، ويضيف: «بعض العقبات قد تحول دون استكمال الأعمال، من بينها وجود ملكيّات خاصة في محيط الموقع». ولدى سؤاله عن الأولويات في حالات مماثلة، وهل يتم تفضيل مصالح الملّاك على مصلحة المدينة التاريخيّة (المصلحة العامّة) قال إنّ «الأمر يحتاج إلى قانونيين مختصّين للبت في هذا التفصيل، واللجنة المشكّلة لا تضمّ حتى الآن خبراء قانونيين»، وشدّد في الوقت نفسه على أنّه «من السابق لأوانه الحديث عن أي قرار، فالقرارات يجب أن تكون مركزيّة، وعلينا أن ننتظر».

إشارات استفهام
وفي انتظار «القرارات المركزيّة» ثمة تساؤلات كثيرة تطرح نفسها: إذا فرضنا جدلاً أنّ موضوع متابعة الأعمال أو عدمها يرتبط بجملة ظروف وتداخلات، فهل هناك ما يحول دون التفكير في استثمار «الرواق الأثري» المكتشف مثلاً وتحويله إلى متحف صغير، أو قاعة أنشطة ثقافية وسياحيّة؟ لا سيّما أنّ الموقع بأكمله هو أول معلم حلبي يتم ترميمه بجهود تطوّعية محليّة وتمويل أهلي. ثمّ، هل يتم تفويت الفرصة التي قُدّمت على «طبقٍ من حرب»؟ وهل تُقدّم المصالح «التجاريّة» على المصلحة التاريخيّة؟ ألا يستحقّ الملف إصدار قوانين جديدة تُنظّم المسألة برمّتها لا في باب النصر فحسب، بل في كامل مدينة حلب القديمة؟ أم أنّ الملف سيطوى في الوقت الراهن، تمهيداً لدخوله نفقاً من النسيان؟؟



الحجر الإغريقي
الحجر الإغريقي الذي كُشطت الأوساخ عن كتابات محفورة عليه في موقع باب النصر، حجرٌ مشهور في كثير من المراجع التاريخيّة البارزة. وعنه يقول كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» للمؤرخ الحلبي الشهير الشيخ كامل الغزي «قرب الباب الداخلي يوجد قطعة من الحجر كبيرة مبنية بالجدار على علو قامة، فيها ثقوب يدخل الناس فيها أصابعهم لزوال ما فيها من عروق الملح على حد زعمهم، ويقولون إنّ تحت الحجر قبر نبي، مع أنّ الكتابة عليه تدل على أنّ هذا الحجر كان موضوعاً على قبر دُفن فيه عروسان اسم الرجل (أرتميس) واسم المرأة (كاليكتي) والظاهر أنه مأخوذ من مقبرة ومبني في محله». أما كتاب «الإشارات إلى معرفة الزيارات» لعلي بن أبي بكر الهروي فيقول إنّ «الملل الثلاث يعتقدونه ويصبّون عليه ماء الطيب والورد».


مقام الخضر
داخل برج باب النصر يقع «مقام الخضر». كان سعي بعض المهتمّين لإعادة الكشف عن المقام سبباً أساسيّاً في تسليط الضوء على باب النصر. ومن المعروف أن شخصيّة الخضر تحظى بمكانة رفيعة لدى كثير من المسلمين، كما لدى المسيحيين واليهود. وعلاوة على المكانة المستمدّة من الأسباب الدينيّة، يحتلّ «الخضر» مكانة خاصّة في الوعي الجمعي للحلبيين. ويُعد الخضر في الموروث الشعبي «حامي المدينة»، وله مقام آخر داخل القلعة. كان الحلبيون يقيمون احتفالاً سنويّاً في الثالث والعشرين من نيسان الذي يُعرف بأنه «يوم الخضر». لم تكن صبغة الاحتفال دينيّة، بل شعبيّة احتفائيّة يشارك فيها أبناء معظم «المِلل»، متضمنة إيقاد الشموع والفوانيس وإطلاق الأهازيج والزغاريد، وتأدية رقصة «السيف والترس». وثمّة مساعٍ في الوقت الراهن لإعادة إحياء تلك التظاهرة، وفق المنهج ذاته.