الخبر لن يسرّ كثيراً الأكراد، الشريك الأول للقوات الأميركية، الذي يدخل في الأشهر المقبلة مأزقاً وجودياً، بعد أن أوثق عربة مشروعه إلى ألفي جندي أميركي يهمون بحزم حقائب الانسحاب. فلا الفيدرالية الشمالية تحوّلت إلى أمر واقع لا يمكن للدولة السورية أن تتجاوزها عندما تحين ساعة رسم خريطة سوريا المستقبل، ولا القوة الكردية قادرة على مواجهة الجيش السوري عندما يدير الأميركيون ظهورهم لوادي الفرات. «البنتاغون» الذي تردّدت عليه قيادات كردية كثيرة خلال أعوام التحالف، عزّز لدى شركائه الأكراد الكثير من أوهام البقاء إلى أن تترسخ أركان الكيان الكردي ويشتد عضده، باغداقه على المقاتلين الأكراد مديحاً لا حدود له، في شجاعتهم وانضباطهم، وفي الأسلحة التي حوّلت قوة ميلشياوية إلى جيش منظم ومسلح قادر تحت التغطية الجوية الأميركية، التي لم يبخل بها البنتاغون أيضاً، على خوض أعنف المعارك، والانتقال من نصر إلى آخر على «داعش» (من عين العرب (كوباني) إلى الرقة، وأرياف دير الزور والحسكة).
القلق الكردي لم ينبجس مع اختيار دونالد ترامب إعادة «فتيانه» إلى ديارهم. وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون لم يتوقف عن النفخ في جمر ظنونهم بطرق أبواب أنقرة، والتفاوض مع رجب طيب أردوغان، وإيكاله لمساعده ريتش آوتسن، التركي الهوى والزواج، أمر ترميم العلاقة مع الأتراك بالتفاهم على سحب الأكراد من منبج، وإدارتها معاً، من ضمن صفقة تشمل إعادة «تعريب» الأوضاع في وادي الفرات برمته، وفرض الانكفاء على القوات الكردية تجنّباً لعفرين أخرى يهدد بها الأتراك في الرقة وتل أبيض، وحتى القامشلي. ولم تهدأ المخاوف الكردية على رغم خروج تيلرسون من المشهد بل إن الادارة الأميركية تثيرها أكثر، ليس باختيارها الانسحاب في توقيت لا يناسب الأجندة الكردية فحسب، بل إن تقلبات المزاج الأميركي وعدم ارتسام استراتيجية ثابتة يمكن الركون إليها هو مصدر قلق مستمر أيضاً لدى الجانب الكردي.
وفي عدوها نحو صياغة استراتيجية خروج من سوريا، وضعت واشنطن مشروعاً لبناء قوة عربية من عشائر شرق الفرات تملأ فراغين موازيين: الأول تقول إنه يستهدف تسليمها القواعد الأميركية في سوريا، وعلى طول وادي الفرات، وبالقرب من الطريق الذي يربط بيروت ــ دمشق ــ بغداد ــ طهران لمواصلة تهديده إذا أمكن، والثاني هو الفراغ الذي سينتج من خروج القوات الكردية وانكفائها إلى الشمال، ومنع الدولة السورية وحلفائها من تحقيق نصر سهل، والتقدم نحو المناطق التي تم إخلاؤها.
وبحسب «وول ستريت جورنال»، طلب الأميركيون من السعودية وقطر والإمارات ومصر، ملء الفراغ شرق الفرات، إما بتمويل إعادة الإعمار في المنطقة بمبلغ أولي يصل إلى ٤ مليارات دولار كما قال الرئيس دونالد ترامب، وإما باستقبال قوات على أراضيهم لتجهيز القوة العشائرية العربية التي تقول مصادر معارضة في المنطقة لـ«الأخبار» إنها لم تتجاوز حتى الآن ستة آلاف مقاتل، فيما يخطط الأميركيون منذ أشهر لتجنيد ٣٠ ألف عربي كحد أدنى، يكلفون بسد الطريق على الجيش السوري إلى منطقة تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة لبنان. ويذهب الأميركيون في تنفيذ قرار الانسحاب إلى حد الاستعانة بمرتزقة «ايريك برنس» المقيم في الإمارات لاحترام مهلة حددها الرئيس ترامب بستة أشهر أو نهاية العام، إذ تقول مصادر «الأخبار» إنّ الاتفاق داخل الإدارة الأميركية قد توصل إلى تلك المهلة، بعد الفشل في إقناع ترامب بالبقاء عامين إضافيين.
إن فرص نجاح هذه الاستراتيجية التي يسعى إليها الأميركيون ضئيلة جداً. فاللجوء إلى مرتزقة «برنس» مؤشر بحد ذاته على ضيق الخيارات العربية البديلة وعلى هشاشة الاعتماد على العشائر شرق الفرات التي فشلت كل محاولات بناء قوة مقاتلة منها قبل سنوات من حديث الانسحاب. وقد جرّبت الاستخبارات الأميركية «جيش سوريا الجديد» لمهند الطلاع الذي انفرط عقد مقاتليه عند أول مواجهة في التنف، ثم ذبحت «داعش» العشرات منه قبل عامين في مغامرة الإنزال بالمظلات على مطار الحمدان. وأفضل ما توّصلت إليه هو تجنيد عناصر «داعشية» سابقة يقودها أحمد أبو خولة في مجلس دير الزور العسكري، والذي ستكون مهمته الأولى محاربة رفاقه السابقين إذا عادوا.
كما أن الدول الخليجية التي يخيّرها ترامب بين دفع الأموال أو تدريب جيشه العشائري فقدت قدرتها هي أصلاً على التجنيد داخل سوريا، منذ سقوط حلب، واقتحام الجيش للمعاقل الأخيرة في الغوطة الشرقية لمجموعاتها من «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن». وكان «داعش» قد أباد أو طرد من تعاون معها شرق الفرات منذ أربعة أعوام، ولم يتقدم مشروع الملك عبدالله الثاني لربط العشائر العربية في تلك المنطقة بالعرش الهاشمي من ضمن المشاريع الأميركية لإيجاد إطار كياني بديل عن سوريا لاستخدام العشائر. كما أن هذه الدول غارقة أصلاً في حروب لا نهاية لها في اليمن كالسعودية والإمارات، أما مصر فتنشغل في صحراء سيناء في مواجهة «داعش»، وتستنكف عن أي تدخّل مبدئي ضد الجيش السوري، وتحافظ على قنوات مفتوحة مع دمشق، وتتبادل زيارات أمنية مستمرة معها. كما أنّ خيار الاستعانة بتركيا لم يحضر أصلاً لأن الأولوية التركية هي مواجهة «حلفاء» أميركا الأكراد، وتدميرهم إذا أمكن. كما أن تركيا تحصد مكاسب أكبر من خلال تحالفها مع روسيا في إطار «آستانا». لكن تعثّر بلورة استراتيجية خروج من سوريا قد لا يمنع الرئيس ترامب من الذهاب نحو الانسحاب الذي ظل متمسكاً به حتى بعد توجيه ضربة عسكرية لسوريا بسبب كلفة البقاء العالية، وتعقيدات داخلية أخرى.

إن ما يطرح على الأكراد اليوم، هو ما العمل؟
تقول قيادية بارزة في «وحدات حماية الشعب» إن الاميركيين قد لا يبقون أكثر من عام واحد في سوريا بعد أن كان تردد أنهم لن يخرجوا قبل ثلاثة أعوام. إن عامل الوقت لم يعد يلعب لمصلحة بناء مشروع فيدرالي في سوريا مع بدء العد التنازلي لسحب الرعاية الأميركية والدخول في مواجهة مفتوحة مع روسيا، حيث عدّ الأكراد معركة عفرين، معركة تركية- روسية مشتركة، كشفت حدود الرهان على أميركا، كما كشفت حدود قوتهم العسكرية التي لن تستطيع مواجهة جميع القوى المحلية والإقليمية، ولا بد لها من إعادة صياغة مشروعهم السياسي على قاعدة التسوية مع الدولة السورية، والانفتاح على دول الإقليم.
لاحظ مسؤول كردي أن التوسع العسكري لـ«الوحدات» كشف أمام الأكراد صعوبة رسم خريطة «الكيان الكردي» في سوريا، واختلاف التوزيع السكاني الكردي في المناطق التي كانت تعد معاقل لهم، وضعف فرضيات الأكثرية الكردية الغالبة في الشمال السوري، وعدم توافر أكثرية وازنة لم تتعد في أفضل الأحوال ٤٠ في المئة.
يقف الأكراد على مفترق طرق، فمن جهة باتوا يدركون حقيقة موازين القوى، وأن الدولة السورية مع حلفائها الإيرانيين والروس، أصبحوا الطرف الأقوى في سوريا ومن جهة أخرى يتعزز التحالف الروسي- التركي، وهو مرشح لمزيد من الاتساع في الشمال السوري. وفي معرض البحث عن رؤية لما بعد الانسحاب الأميركي، يقول مسؤول كردي لـ«الأخبار» إن «رفع شعار الفيدرالية في سوريا بحدّ ذاته شكّل استفزازاً لكل القوى الاقليمية والمحلية التي رأت فيه خطوة انفصالية وتقسيمية».
إنّ العودة إلى حقائق الجغرافيا السياسية تشير إلى أنّ رحيل الولايات المتحدة مسألة وقت وأنّ المشروع الكردي سيصطدم بالقوى الإقليمية من إيران إلى تركيا فالعراق، فضلاً عن الدولة السورية التي لن تقدّم أكثر من مشروع الإدارة المحلية المعروف بالقانون ١٠٧. إن قواسم مشتركة لا تزال موجودة بين الأكراد وبين الدولة السورية، وكان الرئيس بشار الأسد ووزير الخارجية وليد المعلم، قد اعتبرا اللامركزية الإدارية الموسعة أساساً لتسوية داخلية. إن البناء على هذا الإدراك سيسهم في العودة عن مشروع الفيدرالية الذي لم يعد مشروعاً واقعياً، ولم يكن واقعياً بأي حال، كما يسهم في الانفكاك عن القوة الأميركية التي لم تعر أي اهتمام حقيقي للطموحات الكردية. وتعليقاً على التطورات السورية، قال الخبير الألماني في شؤون الشرق الاوسط، غيدو شتاينبرغ، «لم يعد الأميركيون والأوروبيون يلعبون دوراً ذا شأن في سوريا، الإيرانيون والروس والحكومة السورية يتحكمون بمجرى الأحداث. سيكون هناك حلّ، آجلاً أم عاجلاً من دون الغرب»، فهل يراهن الأكراد على الحصان الرابح هذه المرة؟