تعيدنا الأجواء الاعلامية والسياسية إلى مشهد مشابه لأواخر شهر آب من العام 2013. حينها كان «كيميائي الغوطة» أيضاً حدثاً أول، وخلفه تحشيد غربي ــــ عربي طلباً لتحليق «طيور الموت» فوق سوريا. مرّت أيام في انتظار أن يبصر الاعتداء الأميركي النور، وكان القرار مرتبطاً بمجموعة عوامل وعراقيل جعلت صاحب القرار (باراك أوباما) يستخدم «سلّم» نظيره فلاديمير بوتين عبر «اتفاق نزع السلاح الكيميائي السوري». تأخّر الضربة ــــ التي لم تحصل ــــ ارتبط أيضاً بنتائج سلبية متوقعة للفعل، رغم أن الصخب الميداني المضاد في ذلك الوقت كان إيرانياً ــــ سورياً، فيما شغّلت روسيا من بعيد دبلوماسيتها لمنع التدحرج الكارثي.اليوم، بعد أقل من 5 سنوات، تعود واشنطن وخلفها الحلف نفسه الى الاستعدادات والجاهزية العسكرية وكأنّ الحرب على الأبواب. بين هاتين المحطتين، حدث فالق كبير في ميزان القوى على الساحة السورية: روسيا حضرت بكل ما في جعبتها من قدرة عسكرية، إيران ازداد حضورها ونفوذها إلى جانب حزب الله، أما دمشق فبسطت سيطرة ميدانية شبه مطلقة أفرزتها انتصارات استراتيجية في كل من حلب ودير الزور، والأهمّ في المرحلة الأخيرة، الغوطة ومحيط العاصمة.
في مثل هذه الأجواء أيضاً، استهدفت مدمّرتان أميركيتان يوم 7 نيسان 2017 مطار الشعيرات العسكري بـ 59 صاروخاً من طراز «توماهوك»، رداً على «هجوم كيميائي» في خان شيخون حمّلت مسؤوليته للجيش السوري. الهجوم الأميركي لم يكن بمستوى يستدعي ردّاً، وأمكن هضمه من محور دمشق، خاصة مع ابلاغ واشنطن لموسكو بتوقيت الضربة.
اليوم، نحن أمام واقع مختلف في الشكل، إذ إن الإدارة الأميركية أمام اختبار لا تستطيع أن تكون رسائله أقلّ صخباً من ضربة السنة السابقة، لكن ما هو الاعتداء الذي لا يستدعي رداً، من سوريا وحلفائها، خصوصاً من روسيا التي أخذت على عاتقها في العلن حماية «النظام السوري» ومكتسبات جيشه؟ من هنا يمكن فهم «التراجع» الذي ظهّره الرئيس إيمانويل ماكرون مساء أمس عندما حدد أن أي ضربات محتملة «ستستهدف قدرات الأسلحة الكيميائية لدى دمشق».
إذاً، وصلت واشنطن في تصريحاتها وجهوزيتها المعلنة إلى مستوى اتخاذ قرار الضربة، لكن يبقى الاعتداء بمستواه، واليوم الذي يليه، هو المحك الذي على أساسه تُبنى التقديرات.

تحضيرات المسرح
شغلت التحركات العسكرية الأميركية والروسية في منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، الجميع أمس، وسط ترقّب لنتيجة المواجهة الروسية ــــ الغربية في مجلس الأمن. وتوالت الأخبار عن حشد الأميركيين لعدد من المدمرات البحرية في المتوسط، وسط استنفار عسكري للقوات الروسية العاملة في سوريا كما للوحدات البحرية في البحر الأسود. هذا التوتر تُوّج في ساعات المساء، بفشل ــــ متوقع ــــ لأي توافق في مجلس الأمن، على مشروعي قرارين، روسي وأميركي، يتضمنان تشكيل آلية تحقيق مستقلة في استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، تتبع للأمم المتحدة. الجلسة التي بدأت بلقاء تخللته ضحكات بين مندوبي الولايات المتحدة وروسيا، انتهت برفض مشروع القرار الأميركي بفيتو روسي، هو الثاني عشر على التوالي في الشأن السوري، والسادس في ما يخص التحقيقات حول استخدام الأسلحة الكيميائية. بدوره، لم يتمكن المشروع الروسي من تحصيل الأصوات المطلوبة لإقراره، إذ وافق عليه 6 أعضاء وعارضه 7 آخرون.
تصميم سنان عيسى | للصورة المكبّرة انقر هنا

الاجتماع الذي أعلن فشله قبل انعقاده تضمّن ــــ كالعادة ــــ اتهامات متبادلة بين روسيا والدول الغربية. وتوّلت المندوبة البريطانية مهمة التصعيد تجاه المندوب الروسي، لتقول في إحدى جمل خطابها، إن «كارل ماركس يتقلّب في قبره اليوم... لأن البلد الذي تأسس على أفكاره أصبح يدعم ارتكاب جرائم في سوريا». وخصص الوفدان الروسي والأميركي حيّزاً واسعاً من بيانيهما، لتبيان الفروقات في المشروعين المقدّمين، إذ أصرّت المندوبة الأميركية، نيكي هيلي، على أن بلادها وحلفاءها، عملت لأسابيع على مراعاة المطالب الروسية بخصوص إنشاء آلية التحقيق المستقلة الأممية، ولكن روسيا دفعت بقرار «مفاجئ» إلى التصويت. بدوره أكد المندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا أن المشروع الذي طرحته واشنطن لا يراعي التعديلات التي طالبت بها بلاده، وأهمها مراعاة «التمثيل الجغرافي العادل». واعتبر أن طرح المشروع برغم اعتراض موسكو المسبق على صيغته، يشير بوضوح إلى أن الدول الغربية «لا تريد الحقيقة، بل تبحث عن ذريعة» لتبرير عمل عسكري ضد الحكومة السورية. ليذهب إلى القول إنه «إذا اتخذتم القرار بهذه المغامرة العسكرية... سوف تتحملون تبعات ما تفعلون». وكان لافتاً أن المندوبة الأميركية، رغم ما ساقته من اتهامات لروسيا بتقويض عمل المجلس و«حماية نظام (الرئيس بشار) الأسد»، لم تكرّر صراحة تهديد بلادها بالتحرك العسكري برغم كل الإشارات التي تشير إلى مثل تلك التحضيرات من الجانب الأميركي وحلفائه.
المندوب الروسي: إذا اتخذتم القرار بالمغامرة العسكرية ستتحملون تبعات ما تفعلون


في موازاة المواجهة في مجلس الأمن التي اختتمت بتمنٍ روسي بتراجع واشنطن وحلفائها عن «الخطط التي يعدونها» ضد سوريا، كان النشاط العسكري الأميركي يصبّ كلّه في البحر المتوسط. ففيما تتمركز المدمرة البحرية «دونالد كوك» في المنطقة الفاصلة بين سوريا وقبرص، بدأت قطعات بحرية أميركية بالتحرك نحو المتوسط، أبرزها،حاملة الطائرات هاري ترومان والمجموعة القتالية المرافقة لها التي تتضمن ست مدمرات، وفرقاطة ألمانية سترافقها في رحلتها من ميناء نورفولك على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، نحو أوروبا والشرق الأوسط. وذلك بالتوازي مع تحرك عدة وحدات إسناد بحرية ضمن المتوسط.
هذا التحشيد ترافق مع تسريبات تناقلتها أوساط إعلامية أميركية بأن «البنتاغون» انتهى من وضع «بنك أهداف» لأي ضربات مفترضة، وهو ينتظر قرار الرئيس دونالد ترامب. وترافق ذلك مع تصريحات لوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، من باريس، توضح استعداد بلاده للمشاركة في أي تحرك عسكري «مع الشركاء... إذ تطلّب ذلك». وبدا لافتاً، بالتوازي، أن «وكالة سلامة الطيران الأوروبية» أصدرت ظهر أمس تحذيراً عاجلاً لجميع مشغلي الطيران، يخص منطقة شرق المتوسط وقبرص، من احتمال شن غارات على مواقع في سوريا عبر صواريخ جوّ ــ أرض، أو صواريخ «كروز»، خلال الـ72 ساعة المقبلة. وترافقت تلك التطورات مع نشاط عسكري روسي، في سوريا وفي منطقة البحر الأسود. إذ شهدت الأجواء السورية تحركاً لطائرات المراقبة والتحذير المبكر إلى جانب نشاط الطائرات الحربية التي تملك القدرة على حمل صواريخ مضادة للسفن، بالتوازي مع ما نقلته وسائل إعلام روسية عن استنفار للوحدات العاملة في البحر الأسود.

خطوة إلى الخلف؟
كما جرت العادة في المواجهات الديبلوماسية ضمن مجلس الأمن، تحشّدت الدول الأوروبية الكبرى خلف واشنطن، في وجه روسيا. والتزمت الصين أمس، بدعم مشروع القرار الروسي والتحفظ على نظيره الأميركي، مؤكدة على مشروعية التعديلات الروسية المقترحة. وفي موازاة هذا الاصطفاف السياسي، تعمل إدارة ترامب على حشد توافق مع حلفائها، وخاصة فرنسا وبريطانيا، على التعاون في أي استهداف عسكري مرتقب لأهداف حكومية سورية. وبدا ذلك في البيانات التي تلت اتصالات زعماء تلك الدول أمس، والتي أشارت إلى اتفاق حول «ضرورة رد دوليّ لوقف الهجمات الكيميائية»، و«محاسبة النظام (السوري) وداعميه».
وبرغم أن إلغاء ترامب ووزير دفاعه لزيارات مقررة، يعزز التصعيد العسكري، غير أن حديث الرئيس الفرنسي حمل لهجة مخففة حول أي ضربة متوقعة. إذ قال إن بلاده ستعلن «خلال الأيام المقبلة» خطواتها في هذا السياق بالتنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا، مضيفاً أنه في حال قررت شن ضربات عسكرية فستستهدف «القدرات الكيميائية للنظام (السوري)» من غير أن تطال «حلفاءه». هذا التصريح الذي يحجّم من حجم وفاعلية الضربة المحتملة، يشير إلى أن ما جرى من استقطاب حادّ خلال الأيام القليلة الماضية، أثّر في خطط حلف واشنطن الأولية. وهو ما أخّر «الرد السريع» الذي توعّد به ترامب. ماكرون أكد أيضاً أن بلاده «لا ترغب بأي تصعيد»، مضيفاً القول: «إن هدفنا الأول محاربة داعش والتنظيمات الإرهابية... فرنسا تقوم بعمل دبلوماسي أولا في مجلس الأمن الدولي لتعزيز مراقبة استخدام الأسلحة الكيميائية».