لا تفسيرات للتراجع في توقيت الضربة «الأطلسية» على سوريا، وتأجيلها لأيام، سوى أن كلام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي يكتشف نفسه محارباً بسيف الاميركيين، ينطوي على غطرسة فاقعة لتحييد الروس والايرانيين في اللحظة الاخيرة قبل «تأديب الطرف الشرير» في معادلة المحور، وتجنّب توسيع الحرب، والاصطدام بالروس خصوصاً، على ما عناه الرئيس ماكرون.ومع ذلك، فالحرب ضد دمشق قد بدأت، كما تعدّ لها فرنسا وبريطانيا، وتديرها أميركا، وربما تنضم اليها السعودية لاحقاً إذا ما استدعى الامر ذلك، على ما قاله ليلاً ولي العهد محمد بن سلمان، بمجرد التئام الحشد البحري للقوى الاطلسية.
الحرب ضد سوريا أطلسية أيضاً. فرغم أن صاروخاً غربياً واحداً لم يخترق سماءها حتى ليل امس، إلا أن الحروب تبدأ مع الاحتشاد لكسر إرادة القتال لدى الخصم، قبل اندلاع الرصاص. والحشد الغربي فوق الابيض المتوسط يريد يقيناً كسر إرادة القتال في سوريا، وتدفيعها قبل كل شيء ثمن استعادتها الطوق الدمشقي، وإسقاط «دوما»، معقل المعارضة الأهم والأخير في سوريا. فما تبقى لها على مساحة الخريطة السورية جيوب تحتضر لا يُعتد بها.
ومن دون استطلاع الطائرة الروسية مقابل المياه الاقليمية اللبنانية السورية للبارجة «آكيتان» أمس، لم يكن ليُعرف أن بارجة فرنسية تبحر على مقربة من السواحل الشامية، وفي بطنها ١٦ صاروخا جوالاً، ومثلها من صواريخ أرض ـــ جو، تحسّباً لأي مواجهة مقبلة مع «الفضول الروسي» في أجواء المتوسط.
ومنذ شباط الماضي، وانطلاقها من قاعدة نورفولك الاميركية، قيّض لحاملة الطائرات «هاري ترومان» أن تبلغ الحشد الغربي في السواحل السورية وعلى متنها ٩٠ طائرة، خمسون منها مقاتلة، وصواريخ توماهوك، ترافقها ست مدمرات من طراز Arleigh Burke، يحمل كلّ منها من ٦٠ الى ٩٠ صاروخاً جوالاً من طراز توماهوك. وفيما كان مجلس الامن القومي البريطاني يجتمع ليلاً، تقاطعت مصادر لتؤكد جاهزية قاعدة اكروتيري البريطانية في قبرص، للمشاركة في أيّ عملية عسكرية ضد سوريا، من خلال ١٢ طائرة تايفون تحمل صواريخ جوالة لمدى ٥٠٠ كيلومتر من طراز «ستورم شادو».
أظهر صعود القوة الروسية هشاشة المزاعم الاستقلالية الأوروبية عن واشنطن


قبل عام اكتفى الغرب في ذروة استنكاره لضربة كيميائية في «خان شيخون» بإطلاق نيف وخمسين صاروخاً على مطار الشعيرات، مع التحوّط من أي صدام مع الروس، بإعلامهم مسبقاً بالعملية. فما معنى كل ذلك الحشد الاطلسي الضخم والمشترك؟
«سواء شاركت روسيا أو إيران في العملية (الكيميائية) أو لم تشاركا فيها، فستدفعان الثمن». الرئيس دونالد ترامب تقاطع بقوله ذاك مع فرانسوا دولاتر مندوب فرنسا في مجلس الامن لـ«تحميل روسيا أولاً مسؤولية القصف». إن تحميل روسيا المسؤولية عن القصف الكيميائي يقدم مادة أولية في الجواب عن معنى هذا الحشد الذي يلتئم ضدها قبل غيرها. فاجتماع الفرنسيين والبريطانيين والاميركيين في جبهة واحدة فوق مياه المتوسط وفي سمائه ضد روسيا، يظهر تجدد اللحمة بين أقطاب المعسكر الغربي، واستنفارهم معاً بعد ستة أسابيع من استعراض فلاديمير بوتين لأسماء صواريخه وأسلحته النووية الجديدة، في خطاب حملته الانتخابية الرئاسية. وقبل ذلك الاستعراض البوتيني كان لشياطين الظن أن تلعب الرهان على أنْ لا شفاء من الخلافات بين الاوروبيين والادارة الاميركية الجديدة ما ذهب الرئيس دونالد ترامب فيلاً في مخزن زجاج، يحطّم الاجماع الدولي حول اتفاقيات المناخ، والتجارة، ويهدد بذرّ الاتفاق النووي الايراني الثمين رماداً. فما بعد خطاب بوتين، هو بعده، خصوصاً لأنه يعيد منذ ذلك الحين الوئام ويصلح ذات البين في ما صار مجدداً معسكر الغرب الواحد أوروبياً وأميركياً، ضد القوة الروسية، التي بيّن صعودُها المستجد خواءَ الدرع الصاروخية في أوروبا، وقد عكفت اميركا على بنائها في أوروبا عقوداً متتالية، ولو بعد انتهاء الحرب الباردة. أظهر صعود القوة الروسية هشاشة المزاعم الاستقلالية الاوروبية عن واشنطن، ومشاطرة الاوروبيين للمنظور الاميركي للوضع الدولي، الذي يعتبر أن سمته الاساسية انبعاث التنافس بين القوى الكبرى. في سياق كهذا، لا مناص للابن الضال الاوروبي من تلمّس الدرب الى الحضن الأبوي الاميركي، ولو كان يدعى دونالد ترامب.
لو قيّض للغرب أن يتوصل الى احتواء روسيا في البر السوري، فلن تكون الموقعة السورية التي يُعَد لها سوى فاتحة لمعارك أخرى تنتظرها منذ سنوات، في جوارها المباشر، في القوس السوفياتي القديم، في أوكرانيا، وجورجيا وجمهوريات البلطيق. ويملك الروس، من بين الحلفاء، قدرة الرد المباشر على الهجوم الغربي. ويدرك الروس هذه الحقائق، التي تبلورت نواتها أكثر فأكثر، منذ أن أدى دخولهم سوريا الى عودتهم بقوة الى الساحة الدولية، وتَحوُّل دمشق، كما قال بوتين لحظة اتخاذ القرار بدخولها، الى خط الدفاع الاول عن موسكو.