بتصريح واضح لا لبس فيه، خرج أمس دونالد ترامب ليعلن مغادرة الجيش الأميركي من سوريا «قريباً جداً». كلام لا يتساوق مع الصراع المستمر في وجه موسكو وطهران ومع المصلحة الأميركية في سوريا. الصدمة التي أحدثها كلام ترامب ستظهر على نحو أوضح في الساعات والأيام المقبلة، إذ تنتظر ردود فعل سياسية وعملياتية من أطراف مختلفة، أهمها روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل. ورغم الطابع «الارتجالي» للكلمة، فهي تبدو بحسب المعطيات المتوفّرة، غير منعزلة عن سلسلة تفاهمات عُقدت مع كل من فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، إذ تُحضّر الأجواء السورية لأرضية مختلفة عمّا سبق. وتُظهر كأنّ ترامب يفي بوعوده التي أطلقها خلال حملته الانتخابية. في النتيجة، تكثر الأسئلة والاستفهامات بما يخص تداعيات كلام رئيس «أعظم دولة في العالم»، فسوريا محور صراع كونيّ متصل في الإقليم، فهل يجرّ ترامب بلاده نحو انكسار فيها؟بعد أيام فقط على احتدام التصريحات الروسية ــ الأميركية، عقب تهديدات من واشنطن بتحرك عسكري ضد أهداف حكومية سورية ــ على خلفية العمليات العسكرية في الغوطة الشرقية، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بتصريح لافت ومثير للجدل، مفاده أن الأميركيين سوف يغادرون سوريا «في وقت قريب جداً». التصريحات التي وردت خلال حديث مخصص لملف البنية التحتية في الولايات المتحدة الأميركية، أتت في سياق ضرورة الاستغناء عن المصاريف الأميركية المهولة في منطقة الشرق الأوسط، لمصلحة التركيز على المصاريف المحليّة. ومع إشارة ترامب إلى أن بلاده تقترب من هزيمة «داعش»، قال: «سوف نخرج من سوريا قريباً جداً... دع الآخرين يتعاملون معها الآن. سوف نسيطر على مئة في المئة من أرض (الخلافة) بشكل سريع، ونعود إلى أرضنا، إلى حيث ننتمي ونتمنى أن نكون»، لافتاً إلى أن «الولايات المتحدة أنفقت 7 تريليونات دولار» في الشرق الأوسط.
كلام ترامب عن انسحاب قريب من سوريا، يخالف غالبية التوقعات والتحليلات التي افترضت أن توجّه الإدارة الأميركية هو تعظيم وجودها العسكري ومواجهة إيران في الساحة السورية، وأيضاً إفشال «إمساك روسيا بمستقبل سوريا». وبدت مؤشرات هذا التوجه على محو أوضح، في استراتيجية الأمن القومي التي خرجت نهاية العام الماضي. كذلك أكدت المخصصات الكبيرة للنفقات العسكرية في سوريا، ضمن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية لعام 2018، حجم الرهانات على بقاء طويل الأجل هناك. وفي انتظار ما ستكون ترجمة كلام ترامب على أرض الواقع، فإن أي انسحاب عسكري قد يكون مرتبطاً باحتمالات عدة غير ما قاله عن «إتمام المهمة والمبالغ المصروفة». وتشير المعطيات إلى تفاهمات عُقدت مع روسيا وتركيا، بما يخص المنطقة الشمالية أولاً وسحب اليد الأميركية رويداً رويداً من مناطق سيطرة الأكراد. وإلى تفاهم آخر يدعو إلى تفعيل مهمة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا. من جانب آخر، يجري البحث مع موسكو لضمانات «من شأنها الحد من قلق إسرائيل» وخاصة بما يخص المنطقة الجنوبية من سوريا.
ورغم أن واشنطن على موعد في أيار المقبل مع إمكانية إلغاء الاتفاق النووي، يمكن أيضاً قراءة جانب من التصريح على أنه خطوة استباقية لأي تصعيد محتمل من شأنه أن يعرّض القوات الأميركية المنتشرة لخطر مباشر. هذه الرؤية وردت مسبقاً في حديث أوساط أميركية عدة؛ وكان السفير السابق في سوريا، روبرت فورد، من بين الذين لمحوا إلى أن «مجابهة إيران» عبر الوجود الأميركي العسكري والمدني شرق نهر الفرات «غير مجدية»، معتبراً خلال جلسة استماع أمام إحدى لجان «الكونغرس» أن الأفراد المدنيين والعسكريين الأميركيين، سوف يكونون عرضة للاستهداف «بعمليات غير مباشرة من قبل شبكات الاستخبارات السورية الناشطة هناك».
تفاهمات مع روسيا وتركيا بما يخص المنطقة الشمالية وتفعيل مهمة دي ميستورا والحد من قلق إسرائيل


ونظراً إلى التغيرات التي رافقت مسيرة ترامب الرئاسية، فإن التطورات على الأرض سوف تكون مؤشراً أفضل لقراءة التوجه الأميركي في سوريا، والمنطقة، وخاصة أن الوجود العسكري في شرق الفرات لا يمكن فصله عن باقي القوات الأميركية المنتشرة في دول المنطقة، والتي تعد أساس حفظ مصالح واشنطن وحلفائها ــ حتى الآن. ولكن اللافت في كلام ترامب، أنه ترافق مع ما خرج أمس من توجه فرنسي لنشر قوات في مدينة منبج، ضمن إطار دعمها للقوات الكردية هناك. الحديث نقله ممثل حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي في باريس، خالد عيسى، بعد لقائه الرئيس إيمانويل ماكرون، أمس (الخميس)، ضمن وفد من «قوات سوريا الديموقراطية». وأشار عيسى عقب اللقاء، إلى أن ماكرون وعد بإرسال قوات «بشكل عاجل وبالتنسيق مع الجانب الأميركي» إلى منبج والضغط على تركيا لسحب قواتها من منطقة عفرين، وعودة الأكراد إليها. من جانبه، أكد بيان للرئاسة الفرنسية أن ماكرون عرض القيام بدور الوسيط بين أنقرة والجانب الكردي، فيما أفادت صحيفة «لو باريسيان» بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أُبلغ بهذا التوجه عبر السفير الفرنسي في أنقرة. هذه الأجواء أيضاً تعيد إلى الأذهان خطيئة الرهانات الكردية على الأطراف الخارجية، فباريس لا تستطيع ملء فراغ أميركي، فكيف إن كان الأمر في وجه تفاهمات روسية ــ تركية، واشنطن على علم بها.
وبالعودة إلى مسألة «تفعيل مهمة دي ميستورا»، تظهر الأمم المتحدة رهاناً جدياً على قدرتها في إقناع موسكو بتجيير الإنجازات التي حققها مسارا أستانا وسوتشي، لحساب المحادثات في جنيف. هذا التوجه بدا واضحاً عبر الحرص الأممي على حضور الاجتماعات التي رعتها موسكو، بالشراكة مع طهران وأنقرة، وتكرّس من خلال زيارة دي ميستورا، موسكو أمس، في محاولة للحفاظ على دور أممي «مركزي» في مسار «التسوية السورية». وجاءت زيارته أمس، تكريساً لهذا التوجه، فهي استبقت لقاءً رئاسياً، روسياً تركياً إيرانياً، يراكم على إنجازات «الدول الضامنة» في أستانا وسوتشي، وترافقت مع قرب حسم ملف الغوطة الشرقية، بما فيها مدينة دوما. وعقب اللقاء، أمس (الخميس)، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن العمليات العسكرية ضد الجماعات المسلحة في الغوطة شارفت على الانتهاء، مشيراً إلى أن العمل جارٍ على «إعادة الحياة الطبيعية» إلى المناطق التي دخلها الجيش السوري أخيراً. بدوره، رأى دي ميستورا، أن «الوقت حان لإطلاق عملية سياسية فاعلة وملموسة، عبر ربط مسارات أستانا وسوتشي مع العملية السياسية في جنيف». أما وزير الدفاع سيرغي شويغو، فقد أشار إلى دور القوات الروسية في عملية الغوطة وإجلاء المدنيين والمسلحين، موضحاً أنها تمكنت من إحباط محاولات لاستهداف الحافلات بتفجيرات انتحارية.
وعلى الأرض، وفي موازاة اللقاء الأممي ــ الروسي، تواصلت عمليات الإجلاء من مدينة عربين إلى إدلب ومحيطها، فيما خرج مئات من المدنيين عبر معبر مخيم الوافدين، من مدينة دوما. ومع تركيز تصريحات الجانب الروسي، أمس، على قرب الانتهاء من ملف الغوطة الشرقية، أكدت مصادر «جيش الإسلام» أن المفاوضات مستمرة للوصول إلى تسوية في مدينة دوما، في نفي لأنباء عن تعثّر مسار التفاوض بالكامل، والتحول إلى الخيار العسكري. وفي السياق نفسه، اعتبر نائب وزير الخارجية بوغدانوف أن هناك «فرصة لتحقيق تقدم» في المحادثات مع «جيش الإسلام».