تنشغل الطبقة السياسية بالانتخابات النيابية، فيكاد حديثها يطغى على سواه. لكن بقدر ما تكون الانتخابات بعد التمديد ثلاث مرات للمجلس النيابي حدثاً، لولا التخبط الحالي الذي تعيشه القوى السياسية في تحالفاتها الهجينة، يوجد مجال رحب للكلام عن قضايا أساسية لا يلتفت إليها المنخرطون في معركة انتخابية فارغة من أي مضمون سياسي. عنصران ضاغطان، هما الوضع الإقليمي واحتمالات الحرب المقبلة، والتخبط الاقتصادي والمالي الحالي، يثيران قلقاً تصاعدياً وسط حالة اللامبالاة المتمادية عند المنغمسين بالانتخابات. وهذان العنصران يشغلان بال حزب الله والنائب وليد جنبلاط اللذين يعبّران علناً عن مخاوفهما، إضافة إلى سياسيين غير متورطين في يوميات الانتخابات، ممن يميلون إلى قراءة فيها الكثير من الهواجس.
في الوضع الاقتصادي، يبدو لافتاً الاهتمام الزائد بنفي الأخبار عن الوضع المالي المتدهور. كلما زاد النفي، زادت الشكوك. بعيداً عن لغة الأرقام والاقتصاديين والمصرفيين، هناك جو سوداوي يحيط بالذين يتابعون يومياً تطورات الوضع المالي عن قرب، يضاف إلى تحذيرات متتالية عن وضع الليرة وارتفاع سعر الدولار، لا يمكن التقليل من أهميته. هذا الكلام لسياسيين فاعلين، لم يكن يحتاج إلى تصديق من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عن أن البلد مفلس، ومحاولات النفي والتوضيح اللاحقة، كي تكون صورة الوضع المالي على حقيقتها. لكن المشكلة أن أعضاء الطبقة السياسية الراهنة من رؤساء ووزراء ونواب، وجلّهم من المرشحين، وضعوا أمام الناخبين الذين كانوا يصفقون لهم خلال الأيام الماضية عند إعلان اللوائح الانتخابية، صورة وردية عن مرحلة ما بعد الانتخابات.
مراكز الدراسات الأميركية الجدية تتحدث عن ما يمكن أن تحدثه أي خطوة في اتجاه الحرب

والحقيقة، بحسب مصرفيين وسياسيين، هي أن الوضع المالي ينذر بالخطر، وسلامة الليرة على المحك، وكل المحاولات التي يقوم بها مسؤولون ماليون من خلال حملات إعلامية وسياسية للتعمية على هذا الواقع، إنما تزيد في مخاطره، ولا تساهم في حله. وهذا لا يمكن تعويضه بملايين الدولارات التي تدفع في الانتخابات، ولا بالقروض التي سيأتي بها المتسابقون إلى باريس لتضيف ضغوطاً جديدة على الوضعين المالي والاقتصادي، ولا بأن المن والسلوى سيهبطان على البلد بعد الانتخابات، من دون سياسة حكيمة ووعي مالي متقدم. وهذا يعني أن استحقاقات بالجملة موضوعة أمام السلطة السياسية والمالية على السواء، في مقاربة أكثر واقعية وشفافية للوضع الراهن. فتعداد بسيط للملفات العالقة منذ أشهر والفضائح المرتبطة بها، كملف الإسكان والقروض والتخبط في إدارتها والأخبار عن الضغوط على الليرة، التي تصدر وتسحب لاحقاً من التداول كمحاولة منع السحب بالدولار من الصراف الآلي، واستذكار سياسيين مسؤولين ما عاشته اليونان قبل سنتين، وصولاً إلى حقائق يضعها مصرفيون كبار أمام سياسيين، لا يمكن تجاهلها، بمجرد أن يعقد مؤتمر «سيدر» أو تجرى الانتخابات. لأن كل هذه القضايا لا تحل بشحطة قلم، أو بالتباهي بإنجاز الموازنة، أو بالتجاهل والتعمية، كما يحصل مثلاً في مقاربة كل القضايا الأخرى كقضية القضاة المعتكفين، على اختلاف انعكاسات كل من القضيتين على الوضع الداخلي.
والكلام عن الوضع المالي يوازيه كلام عن محاذير الوضع الإقليمي وارتفاع التحذيرات من احتمالات الحرب الإسرائيلية ــ الأميركية. كل العوامل الأميركية الأخيرة من تغييرات في الفريق الأمني والسياسي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تضاعف أجواء الترقب. والتطورات في سوريا والعراق، أميركياً وإيرانياً، تزيد من احتمالات المنحى التصعيدي في دول المنطقة، ولبنان في مقدمها. لهذا تكثر التكهنات عن الحرب المقبلة وإمكان الذهاب أميركياً وإسرائيلياً إلى متغير بهذا الحجم، مع كل ما يعنيه من تأثيرات خطرة على المنطقة برمتها. فالمتصلون بالإدارة الأميركية، يعكسون حالة من التشدد، تشبه مراحل سبق أن عاشتها واشنطن في عهود جمهورية سابقة، لا بل تتخطاها، ويضاف إليها في الوقت الراهن عوامل مستجدة، كالضغط السعودي والإسرائيلي مقابل الانفلاش الإيراني والروسي في المنطقة. ويتحدثون عن سباق مع الوقت، قبل أيار المقبل، الأمر الذي لا بد أن يكون له تأثير مباشر في الوضع اللبناني، وحينها ستكون إطاحة الانتخابات النيابية تفصيلاً صغيراً في كل ما يُعَد للبنان.
كل ذلك لا يعني الجزم بأن الحرب واقعة، أو أن الأميركيين والإسرائيليين لا يضعون عوامل الربح والخسارة في حساباتهم، ولا يضعون وجوهاً مختلفة للحرب العسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية. فمعظم مراكز الدراسات الأميركي الاستراتيجية الجدية تتحدث عن كل ما يمكن أن تحدثه أي خطوة أميركية أو إسرائيلية في اتجاه الحرب وانعكاس ذلك على المنطقة ودولها المنقسمة على ذاتها، وعلى ملف النفط الإسرائيلي والتنقيب في البحر، من دون الأخذ بالاعتبار كثيراً مصالح لبنان في هذا المجال. وتركز أيضاً على الجوانب المتعلقة بمرحلة ما بعد الحرب إذا حصلت وتقاسم النفوذ في المنطقة. لكن السؤال لبنانياً، هل يدرس لبنان مثل هذه الاحتمالات، ولو كانت ضئيلة، أم أن هذا الأمر موسمي، كما حصل حين كثر الكلام عن البلوكات النفطية والجدار الإسرائيلي، ما استدعى اجتماعاً للمجلس الأعلى للدفاع، دعا فيه رئيس الحكومة سعد الحريري الجيش إلى التصدي لإسرائيل؟ وما إن بدأ موسم الانتخابات، حتى طوي الملف، على غرار ملفات كثيرة غيره.