البارز في نهاية الاسبوع، كان خطاب الوزير جبران باسيل خلال احتفال إعلان لوائح التيار الوطني الحر في لبنان. ولأن باسيل والتيار الوطني ينطلقان من قواعد تنشد الحرية والسيادة والعدالة والمساواة والقانون، لا بد من مناقشة ما قاله وما يقوم به ربطاً بالاستحقاق الانتخابي من جهة، وبعمل التيار في الدولة والسياسة منذ وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية من جهة ثانية، إضافة الى وضع التيار الذي قام على قاعدة شعبية واسعة، وها هو ينتهي على شكل حزب له قواعد عمل، تشبه أحزاب الثمانينيات من القرن الماضي.يحق لباسيل أن يقول ما يقول، وأن يصدقه الناس أو يرفضوه، فهذا شأن آخر. ولأن الرجل يلعب على التاريخ والمقارنات، ولأن التيار قوة حقيقية تستحق الافضل كل الوقت، ولأن لبنان لا يحتمل المغامرات السياسية، فمن المفيد إيراد الملاحظات الآتية:
أولاً: ينطلق باسيل في فلسفته لمفهوم الشراكة من قاعدة أنه زعيم الغالبية المسيحية، ما يسمح له باحتكار تمثيل المسيحيين عموماً، متبنّياً بالحرف طريقة عمل الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائب وليد جنبلاط بوصفهم زعماء الغالبية عند الشيعة والسنّة والدروز. عملياً، استسلم التيار للواقع السياسي القائم، وبدل أن يستغل وصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية، حيث بيده قرار حاسم يتعلق بجدول أعمال الحكومة أو توقيع المراسيم، فإن التيار لجأ الى ما هو أسهل، لجهة تحقيق برنامج توسيع النفوذ والحضور داخل الدولة. حتى إن التيار نفسه لم يصبه الفزع عندما وافقه الشركاء في الحكم على تلبية مطالبه. فهؤلاء ليس لديهم مشكلة أصلاً إن جاء شريك رابع الى الطاولة وتقاسم معهم حصص الدولة، حتى لو عاندوا قليلاً، طالما هم تعوّدوا أن يحتكروا تمثيل المسلمين، وأن يضعوا أيديهم على ما تيسّر من حصص المسيحيين.
كيف يكون سوياً أن يخوض التيار معاركه في مواجهة حلفائه في المعركة الرئاسية؟


فعلياً، سقط التيار الحر في الامتحان الأبرز المتعلق بإعادة الاعتبار الى المعايير العامة في اختيار الموظفين. وهذا ما انعكس في سلسلة التعيينات التي حصلت في الدولة منذ وصول عون الى الرئاسة، وفي كل المؤسسات المدنية والعسكرية على حدّ سواء.
لكن المشكلة، في هذا الملف، لا تقتصر عند قبول التيار اعتماد سياسة من كان يفترض أنه يشكو منهم، بل هو لم ينتبه الى أنه تبنّى كل آليات عملهم أيضاً. فعندما يقرّ الشركاء للتيار بأنه الشريك الممثل للمسيحيين، يترك التيار وحيداً في اختيار من يريدهم للمناصب في الدولة. وفي هذا الجانب، سقط التيار مجدداً، لأنه لم يعتمد آلية تتيح لجميع المسيحيين الحصول على الفرصة، بل قرر ــ تماماً كما يفعل زعماء الغالبيات عند المسلمين ــ أن يختار من يراهم الأنسب. وفي هذه الحالة، نكون أمام اختيارات تقوم على مبدأ الموالاة والمحسوبية وتضيق لتصل إلى حدود من هو أقرب الى دائرة القرار داخل التيار نفسه. فكيف يكون الأمر عندما يواجه العهد أزمة التضخم في عدد المستشارين والمقرّبين الذين لهم الحق في الحصول على نفوذ هنا أو هناك؟
الأمر الثالث، هو التصرف على أساس أن كل مَن تم تعيينه سابقاً ليس ذا صفة تمثيلية. يعني أنه صار لزاماً على الموظفين المسيحيين، الذين دخلوا الى مؤسسات الدولة خلال الفترة الممتدة من عام 1990 حتى عام 2017، أن يخضعوا لامتحان ولاء. ونحن نعرف أن غالبية هؤلاء، إما سبق لهم أن قدموا الولاء الى المرجعيات المسيحية السابقة، لأجل الحصول على الوظيفة، أو هم مارسوا التقية. ولذلك، ليس مفاجئاً أن نجد اليوم داخل الدولة حشداً غير مسبوق من الموظفين المسيحيين الذين يعتمدون سياسة «تمسيح الجوخ» مع التيار ورجالات العهد، لظنّهم أنها الطريقة الفضلى للحفاظ على مناصبهم. وبالتالي، فهم هؤلاء ــ أو هم يتصرفون على هذا الاساس ــ أن معايير الكفاءة ليست هي الاساس.
وعندما يجعل باسيل والتيار هذا الامر أساسياً تحت عنوان «تحصيل الحقوق لتحقيق الشراكة»، ننتقل مباشرة الى الخطاب والتعبئة القائمة على قاعدة إرضاء الجمهور المسيحي. وهذا ما يجعل التيار يخسر، وبضربة واحدة، كل الذين ناصروه خلال السنوات الماضية من بقية اللبنانيين، ويجعل هؤلاء أيتاماً من دون ملجأ بعدما راهنوا على أن العماد عون والتيار سوف يفسحان المجال لرفع الظلم عنهم. وعملياً، تكون النتيجة أن سلوك التيار لم يجذب المزيد من اللبنانيين الى مشروع التغيير، بل دفع بالقسم المتضرر من سياسات الحكومات السابقة الى الاستسلام، والذهاب لتقديم واجب الطاعة ــ مع مفعول رجعي ــ الى المرجعيات الاسلامية التي ظلت مصدر قلقه وألَمه في العقود السابقة.
رابعاً، الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ إن التيار كان يواجه سياسات قامت خلال عشرين سنة في لبنان. وهي سياسات عامة لا تتعلق بالموقف من سوريا والمقاومة وانتخاب رئيس الجمهورية وقانون الانتخاب وتشكيل الحكومة، بل في البرامج الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والسياسات الخارجية للدولة. وهو ما جعل التيار يصدر في يوم من الايام كرّاسه الشهير «الإبراء المستحيل». وحتى لا «نأكل رؤوس» بعضنا البعض، فإن حجر الزاوية في هذا الكرّاس يقوم على رفض السياسات التي أقرّها فريق رفيق الحريري، وورِثتها كل الحكومات السابقة، وعلى انتقاد كل الذين جاروه في هذه السياسات. لكن الذي يحصل اليوم هو أن التسوية الرئاسية وقيام تفاهمات بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، جعلا هذا الكرّاس مركوناً في زاوية الأرشيف الميت. وتكفي مراجعة قرارات الحكومة منذ انتخاب الرئيس عون، لنكتشف أن التيار الوطني الحر هو من غيّر مواقفه، لا الآخرون، كل الآخرين، وفي مقدمهم ورثة رفيق الحريري.
في هذه الحالة، عندما يتحدث باسيل والتيار عن مواجهة الفساد، لا يمكنهما الكيل بمكيالين، ولن يكونا صادقين أو عادلين أو محقّين، عندما يقرران أن الفساد يتمثل اليوم في الفريق الذي يمثله الرئيس نبيه بري، ويقرران عدم خوض معركة ضد زعامة وليد جنبلاط، لأن حالة الأخير «تعبانة» و«ما بيحرز». ثم ينسى باسيل والتيار كل ما قام ويقوم به تيار المستقبل. وتكفي الاشارة الى ما حصل في قوى الامن الداخلي ووزارة الاتصالات ووزارة الداخلية ومصرف لبنان ومؤسسات عامة أخرى، حتى نكتشف أن التيار أصابه «حَوَل سياسي» أو عمى ألوان، فصار يرى عين التينة في بيت الوسط، ولم يبقَ من الالوان إلا الاخضر.
والمشكلة أن باسيل والتيار لا يقفان هنا لمراجعة الموقف، بل يذهبان بعيداً في تحميل الآخرين مسؤولية ما ينتقدانه، ويحصران النقد في المقاومة، التي يريانها وسيلة تغطية للفاسدين وناهبي المال العام. ولم يعودا يريان كيف أن بقايا فريق 14 آذار، وفي مقدمهم الحريري، ما زالوا يستندون الى دعم الدول الاقليمية والدولية النافذة للمحافظة على حضورهم القاسي في الدولة، كما يستندون الى «تسوية الرئاسة» في ممارسة المزيد من التسلط على إدارات الدولة ومؤسساتها. وبدل أن يقاومهم التيار، نراه في محطة الانتخابات النيابية هذه، يعمل على مراضاتهم من خلال بعض الترشيحات، بينما هو لا يرى نفسه ملزماً بالتعاون مع الحلفاء الذين وقفوا الى جانبه، وأقاموا الدنيا منعاً لإقصائه وتحقيقاً لوصول عون الى بعبدا.
لكن، هل يجد باسيل والتيار وقتاً للإجابة عن أسئلة هذه السنة حول ما يجري في وزارة الاتصالات من تلزيمات تتعلق بالهاتف وخطوط الألياف الضوئية؟ وكيف تحصل شركة هاواوي، مثلاً، على 70 في المئة من حجم الاشغال مقابل أقل من 30 في المئة للآخرين؟ أم ان التيار يحتاج الى من يشرح له الامر بتفصيل أكبر (هناك ملف متكامل عن التحالف غير الرسمي الكبير الذي يضم مجموعة من المتعهدين بقيادة هشام عيتاني، والذي سيتولى، بدعم النافذين سياسياً، الاشغال في كل لبنان، وهو ملف مليء بالأخبار السارة أيضاً لهواة الصنف).
هل يجد باسيل والتيار وقتاً ليحدثانا عن القوة المستجدة فجأة عند مصرف «سيدروس» الذي لم يتأخر لحظة بعد انتخاب عون رئيساً، بأن رفع الصوت مطالباً بمفعول رجعي يخصّه من الهندسات المالية، ثم من تسويات قائمة بينه وبين المصرف المركزي حول سياسة الفوائد الهادفة الى جذب الاموال بالعملة الصعبة؟
هل أنهى التيار وباسيل، فعلاً، التحقيق في ملف الصفقات أو التنفيعات التي جرت خلال تولّي نائب رئيس التيار، نقولا صحناوي، وزارة الاتصالات، والتي أمكن للبعض جمعها في ملف واحد، لم يصل مع الأسف الى الجهات القضائية المختصة، مع العلم بأن وزير العدل الحالي سليم جريصاتي، وهو ممثل التيار في الحكومة، لديه سيرة «لطيفة» جداً في معرض احترامه ودفاعه عن استقلالية السلطة القضائية؟!
هل تابع باسيل، ومعه أركان التيار، الفضيحة المراد طمسها، في وزارة الزراعة، حيث لا يقوم موظفون رفيعو المستوى، ومن المحسوبين على التيار أصلاً، أو من الذين استجدّ ولاؤهم للتيار، بالدور المطلوب منهم، في منع مرور صفقة مبيدات للحشرات فاقدة الصلاحية وتشكل خطراً على السلامة العامة لجميع اللبنانيين وليس للمزروعات فقط، بينما تستمر الوساطات من قبل المستورد الذي لم يترك مسؤولاً في الدولة إلا وحاول الحصول على دعمه؟ وهل يعرف باسيل والتيار أن هذا الملف يدار بالتشارك بين من هم محسوبون عليه في هذه الوزارة، وفريق وزير الزراعة نفسه، علماً بأن الوزير، وهو غازي زعيتر، محسوب على من يعتبره باسيل رأس الفساد في البلاد؟
كيف يمكن لباسيل والتيار الوطني الحر الإجابة عن عنوان واحد، وفرعي، من ملف الكهرباء: لماذا ظلّ مشروع تلزيم إنتاج الطاقة للمعامل العائمة محصوراً في عارض واحد فقط؟
وعندما يجري الحديث عن مواجهة الفساد والمواقع الغامضة وأصحاب الصفقات والمشاريع التي لم تخضع إدارتها للقوانين المرعية، لا يمكن البحث عن وسيلة لضمّ شخصيات مثل ميشال ضاهر (لديه ملف عالق أمام النيابة العامة المالية، وملف آخر فيه شبهة تشارك مع إسرائيليين خدموا في جيش الاحتلال، في مؤسسات مالية دولية كبيرة) ولا مع سركيس سركيس الذي يملك فقط قدرة مالية كبيرة ناتجة من أعماله غير المدققة بالكامل، فيصبح حليفاً رئيسياً في المتن الشمالي، ولا مع نقولا شماس، الوجه البشع لسلطة الشجع والتمييز في لبنان، ليكون ممثلاً عن بيروت، ولا مع ميشال معوض الغارق الى أبعد ممّا يعتقد التيار في خياراته السياسية المناقضة لكل ما يؤمن به التيار، علماً بأن الحظ فقط أنقذ التيار من ورطة جاد صوايا، وما أدراك ما جاد صوايا!
بل أكثر من ذلك، كيف يكون الأمر سوياً، من حيث النزاهة السياسية، ومن حيث البحث عن مزيد من النقاء السياسي، عندما يصادف ــ واللهِ، مجرّد مصادفة ــ أن يخوض التيار الوطني الحر معاركه الانتخابية في مواجهة حلفائه في المعركة الرئاسية، إلا حيث لا يقدر التيار على خوض المعركة منفرداً؟
كيف يصبح فيصل كرامي وجهاد الصمد وعبد الرحيم مراد وأسامة سعد وإيلي الفرزلي وألبير منصور ووجيه البعريني مصدر مرض خطير، بينما تأتي الصحة الكاملة من تحالف مع الجماعة الإسلامية وآل معوض وغيرهم؟
كيف يعقل أن يوفّق باسيل بين المطالبة بحقه في تسمية المرشحين عن المقاعد المسيحية في دوائر بعلبك ــ الهرمل، ومرجعيون، وزحلة، وعكار، والزهراني وجزين وعاليه والشوف وبعبدا وبيروت، وبين رفضه لحق أبرز حلفائه، أي حزب الله، في أن يسمّي مرشحَيه عن المقعدين الشيعيين في جبيل وزحلة؟
ألا تدعو هذه التحالفات والمواقف الى التأمل، خصوصاً مع استعادة مطالعة الرئيس سعد الحريري ومساعديه أمام الأميركيين والسعوديين، من أن التيار يتقدم خطوات حثيثة نحو فكّ تحالفه مع حزب الله وحلفائه، كما هي الأخبار الأخرى، عن تهديد أميركي – فرنسي صريح للتيارالوطني الحر بوجوب الابتعاد عن حزب الله وحلفائه تحت طائلة شمول التيار الوطني الحر ومؤسساته وقياداته بالعقوبات التي ينوي الكونغرس الأميركي تشديدها على حزب الله؟!
ليس هكذا تورد الإبل يا رفيق جبران!