عام 2013 في باريس، كان فرنسيٌّ قد شارك في حملة دولته على ليبيا (عملية «آرماتان») المنضوية تحت جناح حلف شمال الأطلسي، يتحدّث عن مشاركته، وينقل أموراً عامةً عمّا عايشه. في ذلك العام، لم يكن الدمُ الليبي قد برُدَ بعد، ولم يكن الليبيون قد دخلوا أيضاً في عام 2014 ــ عام انطلاق الصراع بين شرعيات متضادة.للصدفة، كان في جعبة «المستمع ــ الصديق»، كتاب التونسية الفرنسية صوفي بيسيس «الغرب والآخرون؛ قصة هيمنة»، الذي تتحدث فيه عن علاقات التصارع التي أرساها الغرب مع «الآخر» طوال خمسة قرون. من بين ما تقوله بيسيس، أنّ الهوية الغربية تلتصق بـ«ثقافة الهيمنة»، وأنّ «الخشية إزاء (واجب) التخلّي عن موقع المُهيمِن الذي صاغ العلاقة بالعالم، تعني في الوعي الغربي، الخوف من رؤية الهوية تنحل (تتفكك)». أما في ذهنه، فقد كان لا يزال حاضراً، المشهد الذي هزّ العالم في يوم 20 تشرين الأوّل/ اكتوبر من عام 2011؛ مشهد قتل القذافي (يومها روّج البعض مثلاً أنّه جرى الكشف عن مخبئه من طريق دمشق، وغيرها من الروايات، قبل أن يتّضح أنّ ساركوزي «باعه»).
كانت السلطات السياسية في باريس تصرف الانتباه عن فضيحة الدولة


في تلك اللحظة، كان من الصعب الدفاع عن ليبيا ــ وليس عن معمّر القذافي ــ من باب أنّ «الغرب» بأداته «الأطلسية»، دمّرها. كان الإرهاب الفكري، يفرض حضوره، إذ من الشعارات التي كانت تُثار مباشرةً في حينه، أنّ التدخّل جاء «لتفادي مجزرة في بنغازي».
صحيح أنّه في ذلك العام، كانت قضية تمويل القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية، قد أُثيرت عبر صحيفة «ميديابارت» الإلكترونية الفرنسية، ولكن بخجل. الصحيفة نفسها تشرح أمس، أنّ «السلطة السياسية كانت باستمرار، تصرف الانتباه، عن قضية ساركوزي ــ القذافي... (وهي) فضيحة دولة». وفي 2013، كما تُذكِّرُ وسيلة الإعلام نفسها، لم تكن لجان التحقيق البريطانية البرلمانية، قد دحضت شعارت رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، وثبتت في أيلول/سبتمبر 2016 أنّ العملية التي هدفت إلى حماية المدنيين تحوّلت نحو «سياسة انتهازية لقلب نظام»، مضيفةً أنّ فرنسا برئاسة ساركوزي، هي التي دفعت نحو العملية الأطلسية في ليبيا. ولم يكن أيضاً باراك أوباما، قد «برّأ» نفسه، عبر الإقرار في مقابلة صحافية نُشرت في آذار/مارس 2016، أنّه يتحمّل مسؤولية «إغراق ليبيا في الفوضى»، مشيراً إلى أنّ «أكبر خطأ ارتكبتُه سيكون على الأرجح، عدم وضع خطة لليوم التالي (الذي سيعقب) عملية مبررة كما أعتقد في ليبيا».
من الصعب هنا تحميل الذنب للّيبيين الذين انقادوا في ذلك الحين خلف حلمهم. قد ينطبق عليهم حال ذلك «المتمرد الذي يبحث عن العاصفة، اعتقاداً منه بأنّه سيجد فيها الراحة»، كما يقول تشيخوف في مسرحية «الشقيقات الثلاث». إلا أنّ «التمرد» تحوّل كما يظهر إلى أداة استخدمها ساركوزي في سياق «حرب شخصية» أراد في ختامها انتهاز الفرصة للقضاء على حليفه ــ ممولّه السابق، وما يحمله من أسرار.
هكذا ببساطة، نقف أمام رواية لا تكاد تُصدّق. رئيس فرنسي لـ«الجمهورية الخامسة»، يسقط في «حرب شخصية»، قادت نحو تدمير بلد عربي، هو ليبيا، ونحو فتح أفق الخراب الإقليمي في مجمل منطقة الساحل. هنا قد تُشبِه قصة ساركوزي ــ أو الغرب بصورة أو بأخرى بعد التسعينيات ــ مع القذافي، قصة الرأسمالية مع الأشباح التي تصنعها، لإعادة استخدامها كفزاعات وكشياطين.

سبق للمفكّر الفرنسي آلان باديو، أن وصف ساركوزي بـ«الوغد»


لعلّ اللافت أنّ ساركوزي الذي سبق للمفكّر آلان باديو، أن وصفه بـ«الوغد» (أو الأزعر)، اكتسب تعاطفاً في اليومين الماضيين (راجع الكادر أدناه)، علماً بأنّها ليست القضية الأولى التي يُلاحق فيها، وعلماً أنه الرجل الذي أدى عهده الرئاسي بين 2007 و2012، إلى تحطيم أسطورة «رئيس الجمهورية الخامسة» بعدما عرف المنصب قامات من طراز ديغول وميتران، أو حتى جاك شيراك، آخذاً السياسة نحو مسارات هي أقرب ما تكون إلى مسارات التجارة وإدارة الأعمال.
تحطيم «الأسطورة»، لم يقف عند حدود التأثير على الحُكم في فرنسا، وعلى أدواته، وإنّما شمل أيضاً السياسة الخارجية، إذ إنّ ساركوزي أطلق الانعطافة الفرنسية الأهم منذ عقود: في عهده بدأت الاستدارة نحو واشنطن، تحديداً بمعنى الالتحاق بسياساتها والتقرّب من «المحافظين الجدد». الأكاديمي الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية برتران بادي، يقول في حوار كان قد أجراه قبل نحو عامين، إنّه ضمن توجهات ساركوزي «نجد النواة الصلبة للمحافظين الجدد، (حيث نقف على) فكرة تراتبية الحضارات التي تمنح للغرب الحق في تصحيح الاعوجاج في خارج حدوده، وذلك من خلال اتباع سياسة تغييرية في العالم، تُحرَّكُ لأجلها بعض أدوات القوة العسكرية». في ذلك الحوار نفسه، يشير بادي إلى نقطة مهمة، هي أنّه في الوقت الذي كانت فيه التوجهات المناهضة للأميركيين تتصاعد في أميركا اللاتينية وغيرها من بقاع العالم، «فبدلاً من أن تلعب أوروبا الغربية دوراً وسطياً بين الولايات المتحدة وعالم جنوب المتوسط، (اتجهت) أكثر فأكثر نحو المحافظين الجدد الأميركيين، حتى أنّها استبدلتهم عقب انتخاب أوباما عام 2008 وإعادة النظر في الدور القيادي للأميركيين»، ويضع بادي التدخّل الفرنسي العسكري في ليبيا في هذا الإطار. (عن تلك المرحلة أيضاً، يقول بادي إنّ فرنسا لم تنفك منذ عهدي ساركوزي ثمّ خلفه فرنسوا هولاند، تطوّر علاقاتها بإسرائيل... وترفع من نسب التعاون الثنائي مع دول الخليج العربي).

دوّامة... للاستثمار
ليست مفارقة أنّ ساركوزي منذ بداياته السياسية في عهد شيراك، وتحديداً حين تولّى وزارة الداخلية بين عامي 2005 و2007، كان أحد المسؤولين عن جرّ المشهد السياسي في بلاده أكثر فأكثر نحو الخطاب اليميني المتشدد (في لغته وخليفته الفكرية). ولكن لعلّ المفارقة أنّه حين سعى العام الماضي للترشّح مجدداً إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، أخذ لحسابات سياسية أولاً، وبقناعة ثانياً، مواقف ذات طابع ثقافي متشدد، وتحديداً في ما يخص «أزمة اللاجئين». بمعنى أوضح، إنّ الرجل الذي كان سبباً في إشعال «أزمة اللاجئين» بفعل التدخل العسكري في ليبيا، أصبح يستثمر نتائجها في خطابه السياسي. وهنا تتضح معالم دوامة، أنشأها ساركوزي وغيره من «محافظي (أوروبا) الجدد»، وها هم يستثمرون فيها.
المؤرّخ الإيطالي إنزو ترافيرزو، يقول عن «أزمة اللاجئين» إنّ «الاستقبال واجب أخلاقيّ وسياسيّ، أولاً، بعيداً عن أيّ اهتمام إنسانيّ، لأنهم يهربون من حروب الغرب نفسه»، مضيفاً أنّ هؤلاء «منتج لزعزعة استقرار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة ألقت بها حروب غربيّة متعددة في أتون الفوضى. فبين غزو العراق عام 2003 والتدخل العسكريّ في ليبيا عام 2011، تمت بلقنة هذه الأراضي؛ دُمرت دولها واقتصاداتها؛ وحُطمت توازناتها».
برغم ذلك، فالأزمة الأكبر ربما، هي أنّه في الوقت الذي «تهتز فيه الديموقراطية الغربية» نتيجة سلسلة من النتائج الانتخابية، في عدد من الدول، تتكشف كواليس انتخابات رئاسية في فرنسا، قادت في عام 2007 نحو وصول مراهق «يميني» إلى الإليزيه، ليلعب بمموّله الليبي، وصولاً إلى المشاركة في اغتياله، وذلك قبل ظهور ترامب وغيره من «مجانين العالم» بأعوام.

«لماذا كل هذه المسرحية؟»
بهدف الدفاع إعلامياً عن «رئيسه»، وصل رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق جان بيار رافاران، إلى حدّ القول: «في القضايا السياسية، لا تظهر عدالتنا (العدالة القضائية) رصينةً»، متسائلاً: «لماذا كل هذه المسرحية؟». تصريحات رافاران، تبعتها أخرى مشابهة لها، ولكنه قال أيضاً: «لسنا مضطرين إلى إبراز شعور أننا نريد إذلال (الناس) حين نريد مقاضاتهم». للإشارة، كان مؤيدو مرشّح «الجمهوريين» (اليميني) فرنسوا فيون، قد أطلقوا تصريحات مماثلة تهاجم القضاء الفرنسي، حين بدأت ملاحقة مرشّحهم إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
جدير بالذكر، أنّه في نهاية شهر شباط الماضي، جرت محاولة اغتيال لـ«كاتم أسرار القذافي»، بشير صالح، في جنوب أفريقيا (الأخبار العدد 3405)، وهو يُعدُّ شاهداً رئيساً في قضية تمويل حملة ساركوزي. وكانت صحيفة «لوموند» قد نقلت عن صالح في مقالة نشرتها في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، بعنوان «الليبي الذي يعرف الكثير»، قوله إنّ «القذافي قال إنه موّل ساركوزي، والأخير ينفي، وأنا أصدّق القذافي أكثر ممّا أصدق ساركوزي»، متهماً في الوقت نفسه الرئيس الفرنسي الأسبق بأنّه «دمّر ليبيا». ودعا صالح، كما نُقِل عنه في المقالة نفسها، «القضاء الفرنسي إلى محاكمة ساركوزي، نظراً إلى الشر الذي ألحقه بليبيا، بدلاً من ملاحقتي بقضية التمويل هذه».