إذا كانت الرواية النسوية اللبنانية قد خطت لنفسها طريقاً مع ليلى بعلبكي في «أنا أحيا» (١٩٥٨) حيث سعت كاتبتها إلى كسر هيمنة النبرة الذكورية على الخطاب الأدبي ومهدت الطريق للهمس الأنثوي والأفكار المقموعة في مجتمعات عربية محافظة، أو مع منى جبور التي أسست في روايتها «فتاة تافهة» (١٩٦٢) لأدب أنثوي يطور رؤية بعلبكي ويؤسس لأدب يحفل بقاموس جسدي أنثوي يدعو فيه المرأة قبل الرجل للاعتراف بهذا الجسد وقبوله، وكذلك مع ليلى عسيران التي اختارت في روايتها «لن نموت غداً» (١٩٦٢) قاموس مصطلحات الأرستقراطية البيروتية للتدليل على خواء حياة هذه الأرستقراطية الداخلة في حداثة مشوهة، أو بلقيس الحوماني التي استعارت في «حي اللجا» (١٩٦٧) معجم الطبقات الشعبية للتدليل على التناقض الطبقي والصراع وفق المفهوم الماركسي بين المهمشين والمستغلين... فإن الخارطة الروائية النسائية في لبنان انفتحت مع إملي نصر الله (١٩٣١ـ٢٠١٨) على ثيمات جديدة، ستجعل بلا شك من صاحبة «طيور أيلول» و«شجرة الدفلى» صاحبة أفق روائي أعمق بكثير من العنوان الذي ألصق بها من قبل النقاد كأديبة للقرية والمهجر. «طيور أيلول» اختلفت في خطابها الروائي عما حملته الرواية النسائية قبلها، اختلافاً أسهم في إثراء الرواية المكتوبة بالعربية في لبنان بمروحة سعت إلى تخطّي التناول الجندري أو الطبقي للرواية النسوية وفتحه على آفاق أرحب. تتناول «طيور أيلول» قصة زمنين: زمن القرية، حيث الحاضر ينتمي إلى الماضي، وزمن المدينة حيث الحاضر موغل في تغريب ساكنيه. بين الزمنين، تسهم الكتابة في صياغة ذاكرة للحنين، ذاكرة تنحت في طياتها إملي نصر الله فضاء للحركة والحضور. قد تبدو هذه النوستالجيا ساذجة للوهلة الأولى، إذ أن الرواية تتناول الماضي لإنعاش زمن القرية اللبنانية وتجعل من هذا الزمن مرآة للحاضر. ولكن بهذه الطريقة، تفترض نصر الله وعياً روائياً يرى الهوية كأنها تعلق بمسقط الرأس وارتباط بالأرض، ويرى المدنية كأنها حوت يبتلع كل شيء. يقول راجي في الرواية إن القرية تبقى «نقطة منسية» في عالم الوجود.
وضع المرأة وصدمة الحداثة في المدينة وذاكرة الجماعات الدينية والعرقية

ضمن هذا التناقض، تخلق إملي نصرالله فضاء للقرية داخل روايتها. فضاء تعاني المرأة فيه بقدر كبير: لقد تركها زمن القرية أسيرة للتقاليد والموروثات؛ هي تعيش في القرية والقرية تعيش في الماضي. تحكي الرواية عن هذه الموروثات التي ــ على شاكلة السدود العالية ــ تمنع الفتيات من التعرّف إلى الحب، الذي يعتبر في الريف «إثماً قاتلاً»، وتتحدث عن النساء اللواتي تتحدد قيمة حياتهن بعدد الأطفال المحمولين على أيديهن، وعن جرثومة الحب القاتلة التي تترك خلفها الكثير من الضحايا. تموت مريم في الرواية ضحية للاختلافات الطبقية بين أسرتها وأسرة حبيبها، بينما تكون نجلا ضحية لأم الخطايا، ألا وهي الزواج من شخص من ملة أخرى. تتناول الرواية أيضاً الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تدفع الشباب الى الهجرة، تاركين حبيباتهم خلف الشبابيك الحزينة. هجرة وفقاً لرؤية الكاتبة تسهم في اقتلاع الجذور وتهديد الهوية. هاجس الأرض والهوية سيترك بصمته على معظم روايات نصر الله الأخرى. في «الإقلاع عكس الزمن» (١٩٨١)، تجعل نصرالله من رضوان، إحدى شخصيات الرواية، صورة نموذجية للبطل المتمسّك بالأرض ولقيمه اللبنانية الريفية. يترك رضوان أميركا وأولاده وأحفاده ليطير نحو قريته في الجنوب اللبناني حين يعلم أنها تعرضت للاحتلال الإسرائيلي. تبدو قضايا الهوية والانتماء نسقاً في روايات نصرالله، تخلق بداخله لغتها الروائية. اللغة مشتبكة بلهجة القرية اللبنانية، بطرق القرويين بالتحايل على الكلام، بالأمثال الشعبية التي تزخرف جملهم وبالمأثورات الشفهية المحفوظة في الذاكرة الجمعية. تنبض روايتها بقلوب هؤلاء البسطاء بلغة تسهم في خلق قالب لهوية «لبنانية» وتحدد الخصائص اللغوية لهذه اللغة. كانت بذلك تصوغ أدباً ميز مجموعة من الكتاب النثريين اللبنانيين كأمين نخلة في «المفكرة الريفية» (١٩٤٥)، وفؤاد سليمان في «تموزيات» (١٩٤٥). حاولت هذه المجموعة أن تعطي لبنان، بحدوده الجغرافية الجديدة التي لم تعد تابعة إدارياً لسورية الكبرى، شكلاً ومعنى جديدين. «الطاحونة الضائعة» (1984) يمكن أن يعتبر العمل الأكثر نضجاً في مسيرة نصرالله. إذ عرضت فيه نضال البشر، خصوصاً النساء، في إعادة ترميم النفس وذاكرة المفقودين أثناء الحرب، ويمكن اعتباره العمل الذي أخرجها من الصورة النمطية لأقانيم القرية والهجرة والريف في أدبها. القصة الأبرز في هذه المجموعة المكتوبة بلغة المتكلم، تتحدث نصرالله عن امرأة تبحث عن إرث العائلة الضائع وسط أرض منكوبة ضاع فيها أي أثر للأسلاف. المرأة التي لا تحمل اسماً تتجول مع ابنتها في هضاب خلف بيروت بحثاً عن الأملاك والأماكن التي ترعرعت فيها: تجد نفسها في البدء وسط رؤية سديمية بفعل سنوات البعد العشرين التي شتّتت الذكريات، لترسم لنفسها وسط الخرائط خطة كتلك التي ينتهجها الهجانة أو مقتفو الأثر. تقودها العلامات رويداً رويداً إلى مكان الطاحونة القديمة، ومن هذه العلامة بالتحديد، تبدأ المرأة بنسج شبكة عنكبوتية من الذكريات تعيد عبرها تظهير العلاقات الاجتماعية القديمة التي قامت حول الطاحونة، والطقوس العائلية في العلاقة مع المحاصيل الزراعية والقصص التي كانت تروى عند زيارة الطاحونة وحولها. بهذه العملية، تدخل المرأة لعبة Puzzle كبيرة تساعدها في إعادة اكتشاف نفسها، وهويتها ونقاط التوازن في وجودها. أهمية هذه المجموعة في عمل نصرالله أنه يمكن من قلب هذه الاستعارة دعوة الجماعات التي تعيش في «بيت بمنازل كثيرة» (والتعبير للمؤرخ كمال الصليبي)، أن تتجه نحو تاريخها القريب والبعيد، لا لإحيائه من الأنقاض بل لتناوله معرفياً وسيميولوجياً بشكل أفضل، تحديداً في العلاقة بين الهوية، وخصوصية المكان والمعاني التي تتولد من التقاء هذين العنصرين. في قصة ملفتة في المجموعة نفسها بعنوان «أندروميدا»، تتحدث نصرالله عن امرأة تمشي على الشاطئ بحيث تكون قبلتها مدينة طرابلس، وتكون بيروت خلفها. تدعو المرأة المجهولة الاسم القارئ إلى أن يفهم تجربتها، يتفاجأ بامرأة أخرى اسمها أندروميدا، تقدم نفسها بأنها المنقذة لمدينة قديمة. إنها أندروميدا في الأسطورة الإغريقية القديمة، لكنها هنا، وببراعة ملفتة من نصرالله، لن تكون ضحية التنين، أو الأضحية التي يقدمها أبوها لافتداء المدينة. ستكون أندروميدا المرأة التي تعي شرط وجودها وتواجه الكائن البغيض الذي يقف أمام وجودها وتقهره بيديها. بهذه الوضعية التقدمية التي أرادتها لها إملي نصرالله، تفوقت أندروميدا في مصيرها الإيجابي بأشواط على مصائر سلبية رسمها لها كتاب غربيون معاصرون من روبينز وبيرن- جونز وتامارا دي ليمبيكا، حيث تظهر أندروميدا ضحية هشة تحتاج الى رجل لإنقاذها. ما كتبته نصرالله باكراً عن صدمة الحداثة في المدينة وذاكرة الجماعات الدينية والعرقية وإدارة الاختلاف في وطن مزدحم بالنزاعات وكذلك شرط المرأة في مجتمع لا يزال يمارس العنف ضدها من اللغة إلى الأحوال الشخصية وصولاً إلى جرائم الشرف، هو ضمانة أكيدة لراهنية هذا الأدب: سيعود كثيرون إلى ما كتبته ابنة الكفير الجنوبية لقراءته بعيون جديدة.