يوم تسلّم فلاديمير بوتين مهمات رئيس الدولة الروسية، من سلفه المريض بوريس يلتسين، عشية الألفية الثالثة، قلّة قليلة، ربما، كانت تدُرك أن ذلك «الرجل الغامض»، الذي سلك مسيرته السياسية الطويلة إلى «الكرملين»، من مؤسسة الاستخبارات السوفياتية «كا جي بي»، التي خدم فيها ضابطاً، ومن ثم عمادة سانت بطرسبرغ (لينينغراد) التي شغل فيها منصب الرجل الثاني، وبعدها رئاسة جهاز الأمن الفدرالي «أف أس بي»، ولاحقاً رئاسة آخر الحكومات اليلتسينية المتذبذبة... هو من سيقود روسيا مجدداً إلى صدارة المشهد الجيوسياسي في العالم.بعد سنوات قليلة على هذا الحدث «الألفي»، علّق جون سيمسون، وهو أحد الصحافيين البريطانيين المخضرمين، ممن عملوا في روسيا لسنوات طويلة، على ما جرى بالقول: «لو طُلب منّي في عام 1999، أن أعد لائحة من مئة للأشخاص الأكثر رجحاناً لرئاسة روسيا، فمن المؤكد أن فلاديمير بوتين لم يكن ليدرج عليها!».
أما بعد 18 عاماً على العهد «البوتيني»، فإنّ أحداً لا يجرؤ على مجرّد التفكير باحتمال ــ ولو ضئيل ــ عدم انتخاب فلاديمير بوتين لولاية رئاسية رابعة، أو أن يشكّك بالنتيجة المحسومة سلفاً لانتخابات الثامن عشر من آذار، التي ستُبقي «القيصر الجديد» في الكرملين، حتى عام 2024... أو ربما لفترة أطول.
مراكز استطلاعات الرأي الروسية نفسها، لا تعاني من المعضلة التي واجهتها نظيراتها في أوروبا، حين أخفقت الكثير من توقعاتها في الجولات الانتخابية الرئاسية خلال العقدين الماضيين، فكلّها يُجمع، اليوم، على أن نتيجة التصويت ستكون فوزاً ساحقاً لفلاديمير بوتين في الاستحقاق الانتخابي، بغالبية تدور حول الرقم السحري: 70 في المئة.
كل ذلك، يجعل بوتين واثق الكلام، وهو يعرض، أمام النواب الروس، في خطابه السنوي أمام البرلمان، في مطلع آذار الحالي، خططه العشرية، التي تتجاوز السنوات الست من الولاية الرئاسية الرابعة، وإن غلَّف الأمر بعبارات من قبيل إن مشروع المضي نحو المستقبل يجب أن يتحقق «أيّاً كان الرئيس المقبل» لروسيا.
حتى الخطوات الجيوسياسية التي يتخذها الرئيس الروسي في السياسة الخارجية تجعل رصيده يرتفع، بعد انخفاض طفيف، غالباً ما يعود إجراءات داخلية غير شعبية، باتت تُربط مباشرة بالأداء الحكومي أكثر من ارتباطها بالـ«غاسودار»، أي رأس الدولة، وفقاً للأدبيات القيصرية القديمة المستعادة.
على سبيل المثال، فإنّ شعبية بوتين، في استطلاعات الرأي، ارتفعت من نحو 30 في المئة في مطلع عام 1999، إلى ما يزيد على 80 في المئة بعد حرب الشيشان الثانية، ثم تراجعت إلى ما دون 70 في المئة، خلال مرحلة الثورات الملوّنة في الجمهوريات السوفياتية السابقة، لتعاود الارتفاع إلى ما دون 90 في المئة بقليل، بعد الحرب مع جورجيا، ومن ثم تتراجع إلى نحو 60 في المئة، على خلفية الأزمة الاقتصادية، لتحلّق مجدداً إلى ما يقرب من 90 في المئة بعد استعادة شبه جزيرة القرم والحملة العسكرية في سوريا.
نظرة الصراع بين «دكتاتورية» بوتين و«ديموقراطية» نافالني، ساذجة وخبيثة


وفي العموم، يكفي الرئيس الروسي أن يزور مصنعاً هنا، ومدرسة هناك، أو أن يعقد مؤتمراً صحافياً يضمّنه عبارات التحدّي للولايات المتحدة، أو أن يلقي خطاباً أمام «الجمعية الاتحادية» يعرض خلاله أحدث منظومات الأسلحة الروسية، ليرتفع مؤشر التأييد الشعبي له، بشكل مباشر.
كل ما سبق، يجعل الحاجة منتفية، بالنسبة إلى بوتين، إلى حملات انتخابية ضخمة لاستحقاق معروف النتائج مسبقاً.
لا يعود ذلك إلى «دكتاتورية» بعباءة عصرية، يحاول الغرب إلصاقها بسيّد الكرملين، ولا هي تكتيكات على الطريقة المصرية، تجعل الرئيس لا يرغب سوى في منافسة نفسه في استحقاقات انتخابية، تقترب من استفتاءات الـ«99%» العربية المعروفة.
ولعلّ خصوصية الانتخابات الروسية تنبثق من خصوصية الحياة السياسية نفسها في روسيا، على نحو يتجاوز تلك الصورة النمطية التي رسمتها «بروباغندا» الحرب الباردة، عن تلك الأيدي المرفوعة في اجتماعات «اللجنة المركزية» لمبايعة «الرفيق الأمين العام»، ولسيل التهنئات التي تبدأ من قيادات أعلى هرم «القيادة السوفياتية»... إلى أصغر الفرق الشبابية الحزبية في الأقاليم.
بذلك، يمكن القول إنّ المعركة الانتخابية الفعلية لفلاديمير بوتين، تبدو مغايرة للمعارك الاستعراضية المعروفة في الغرب، حين يبلغ الاستقطاب السياسي ذورته، عشية الاستحقاقات الانتخابية، فيسعى هذا المرشح أو ذاك إلى فعل المستحيل للحصول على نقطة أو اثنتين في استطلاعات الرأي، ولاحقاً في صناديق التصويت.
في الحالة الروسية، تُقارَب الحملات الانتخابية، شكلاً ومضموناً وزمناً، بشكل مختلف. وفي الحالة البوتينية بالذات، تقاس الحملة الرئاسية بالأرقام الاقتصادية، والإحصاءات الديموغرافية، و«بارومتر» الشعور بالفخر الوطني، وكلها عوامل تغيّب المنافسة الجديّة، طالما أن المنافسين المفترضين «غير جدّيين»، في طرح برامج، تقنع الناخبين الروس بخيار مختلف عن «البديل البوتيني» لحقبة التسعينيات السوداء!
انطلاقاً من ذلك، تُصبح من السذاجة مقاربة الانتخابات الروسية بالمنظور الغربي، الذي غالباً ما يسعى إلى تصوير الحراك السياسي في روسيا صراعاً حاداً بين «دكتاتورية» زعيمها فلاديمير بوتين، وبين «ديموقراطية» ثائرها اليكسي نافالني.
هذه النظرة الساذجة والخبيثة في آن، لم يكن انكشافها في حاجة سوى إلى مواجهة انتخابية غير رسمية، دارت رحاها، قبل أربعة أشهر من انتخابات الثامن عشر من آذار في إحدى قاعات «مركز التجارة العالمي» في موسكو، حين اقتحمت نجمة تلفزيون الواقع، والمذيعة الشهيرة في قناة «دوشت» كسينيا سابتشاك، المؤتمر السنوي لبوتين، ونصبت لنفسها فخاً، بأن سألت الرئيس البارع في استخدام «كاتالوغات» جهاز «كي جي بي»، ووريثه جهاز «أف اس بي»، في المنازلات السياسية الداخلية والخارجية، عن «القيود» التي تفرضها أجهزة الدولة الروسية على المعارضين لعدم خوض المنافسة الانتخابية.

المنافس الأول للرئيس الروسي هو نسبة المشاركة - أ ف ب

المذيعة «النجمة»، التي فاجأت الرأي العام الروسي في تشرين الأول الماضي، بإعلان ترشّحها لانتخابات الرئاسة، تلقت الضربة القاضية، حين ردّ عليها بوتين بالقول: «لقد اخترتِ شعار (ضدّ الجميع) عنواناً لحملتك الانتخابية... هل هذه طريقة بنّاءة؟!»، في إشارة إلى عدم جدّية المرشّحين المعارضين، وافتقادهم للثقة في صفوف الناخبين الروس، قبل أن يصوّب على النقطة الجوهرية في سؤالها، والمرتبطة بالمعارض البارز الكسي نافالني، الذي تتخذه المعارضة الموالية للغرب رمزاً لها، جعل بعض وسائل الإعلام الغربية تشبّهه بـ«لينين» في سعيه للثورة على «القيصر»(!)، إذ وصفه بأنه «النسخة الروسية» من الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي.
تلك المنازلة الكلامية، تكاد تختصر المشهد الانتخابي الروسي الحالي:
ثمة «رئيس قوي» لديه ما يكفي من المقوّمات التي تجعله «الزعيم المحبوب»، بصورة أكثر عصرية للتعبير الشهير في «البروباغندا» السوفياتية، و«القيصر الجديد» وفق تعبير الصحافة الغربية، بدءاً من «الكاريزما» الشخصية، التي يُجمع عليها مناصروه وخصومه على حدّ سواء، مروراً بالقدرة على دغدغة المشاعر القومية للروس، بعدما أعاد لهم مكانتهم الرفيعة بين الشعوب، وصولاً إلى رؤية استراتيجية مدعومة بالأرقام والمعطيات... والأهم مما سبق شبكة مصالح واسعة ضمن النخب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدينية.
وفي المقابل، فإنّ الانتخابات الرئاسية الحالية تتوزّع بين «منافسين» يقتصر خوضهم الانتخابات من باب «إثبات الوجود» فحسب، سواء أقرّوا بهذه الحقيقة، كما فعلت كسينيا سابتشاك ورجل الأعمال بوريس تيتوف، أو غلّفوها بمبدأ العمل السياسي التراكمي، كما هي الحال مع «الرفيق المليونير» بافل غرودينين، الذي يخوض الانتخابات باسم «الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية» عوضاً عن مرشحه الدائم غينادي زيوغانوف، أو القومي المحافظ فلاديمير جيرينوفسكي، الذي يخوض سادس انتخابات رئاسية على رأس «الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي»، أو الليبرالي غريغوري يافلينسكي، مؤسس حزب «يابلوكو» (التفاحة) الذي يخوض ثالث معاركه الانتخابية؛ وبين «هامشيين» يبحثون عن مكان في الحياة السياسية من بوابة المعارضة، أمثال القومي سيرغي بابورين، والشيوعي «المنشق» مكسيم سورايكين.
بذلك، يصبح المنافس الأول لفلاديمير بوتين هو نسبة المشاركة، وهو واقع يعكسه، على سبيل المثال، العدد القليل للافتات الانتخابية التي تحمل صورة الرئيس الروسي، مع شعار «رئيس قوي لبلد قوي»، مقارنة بالعدد الهائل للافتات التي تحمل توقيع اللجنة العليا للانتخابات، والمحفّزة للناخبين على الاقتراع تحت شعار «بلدنا... رئيسنا... خيارنا».