راشيل كوري: المبتسمة في «العالم الآخر»


«كانت فوضوية، خلاقة، قريبة من الطبيعة، وحشرية تجاه الكون». في مراهقتها تمرنت في إحدى العيادات على تلقي اتصالات من كانوا في حاجة إلى المساعدة وإرشادهم. هكذا وصف كرايغ وسيندي ابنتهما «رايتشل كوري»، كما يلفظان الاسم. عقلها الجميل كان يعرف كيف ينصت وكيف يتكلّم. ربما كانت أكبر من سنها، يقول والدها، فحين أخذها معه إلى مكتب عمله في الصف الخامس، أجابت بجديّةٍ عن سؤال أحد رفاقه حول ماذا تريد أن تكون حين تكبر بـ «أنا شاعرة». وفعلاً، كان ليومياتها التي كتبتها في رفح ورسائلها التي أرسلت إلى أهلها أثر كبير إذ انتشرت عبر الإعلام بعد موتها. نظرتها للعالم كانت أكبر من نظرة فتاة في الثالثة والعشرين، كانت نظرة فتاة واثقة كفاية لتسائل معتقداتها ولتقطع مسافة تفوق عشرة آلاف كيلومتر نحو الـ «عالم الآخر». كانت أحداث الحادي عشر من أيلول مرحلةً مهمّة في حياتها. بدأت تتشكل لديها تساؤلت عديدة. ذهاب رفاق لديها إلى فلسطين مع حركة التضامن العالمية ISM شجعها على الانضمام إلى الحركة، وبدأت بتعلّم العربية في الولايات المتحدة.
قبل ذهابها بيوم يستذكر والدها أنه اتصل بها ليقول لها إنّ ليس عليها الذهاب، فكان جوابها حازماً «أعلم ذلك، ولكنني أظن أن باستطاعتي القيام بالأمر، أبي. أعلم أنّه عليّ أن أحاول». محاولات أمّها في إقناعها بالذهاب إلى الهند حيث لهم أقرباء، بدلاً من فلسطين باءت بالفشل أيضاً، تقول سيندي كوري بضحكةٍ حزينة. على الرغم من أن الشابة التي كانت تبلغ 23 عاماً لم تكن تطلب من أهلها الذهاب بقدر ما كانت تعلمهم بذلك، إلّا أنّها كانت في الوقت عينه تحاول أن لا تقلقهم عليها، هذا بالإضافة إلى الكتب التي كانت ترسلها إليهم عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكانت هذه صورة مغايرة عن الصورة التي كانوا يتلقونها في الإعلام والتي تبعد عن المعاناة الإنسانية للفلسطينيين. لا تزال الأم تحتفظ بكتاب الصحافية الإسرائيلية التي أظهرت الجانب الانساني لمعاناة الفلسطينيين عميره هاس: «شرب ماء البحر في غزة» Drinking the Sea at Gaza والذي تركته لها ابنتها، قبل مغادرتها إلى فلسطين.
توفيت رايتشل في 16 من آذار 2003. الجميع يعرف القصة، الجرافة الإسرائيلية التي أكلت جسدها. كانت تحاول حماية بيت في رفح من الهدم. بعد موت رايتشل انهالت على الأهل الاتصالات من الصحافة عبر الولايات المتحدة والعالم، كما انهالت عليهم رسائل الدعم من فلسطينيين وأميركيين على حد سواء. «الأسوأ قد حصل، ولا شيء يهمّ» يقول كرايغ كوري عن موت ابنته. قرّر الثنائي إنشاء مؤسسة باسم ابنتهم للتأثير على سياسات الولايات المتحدة من جهة، ولإنشاء مشاريع مباشرة مع غزة تسمح للفلسطينيين بأن يواصلوا الصمود، أحدها تنظيم بطولات رياضية تحمل اسم رايتشل في غزة. ومن المفترض أن يعرض عمل مسرحي عن رايتشل كوري صيفاً في لبنان مبني على مذكراتها التي كتبتها. اسم رايتشل محفور في قلوب الفلسطينيين، وصورتها مبتسمة كشجرة زيتون.

■ ■ ■


والدة توم هيرندل: ابني بطلٌ من غزة



أثناء غيبوبته التي امتدّت على ثمانية أشهر، كانت جوسلين هرندل تتعمّد لبس الأساور التي تصنع رنةً أثناء المشي، آملةً في قرارة نفسها أن يكون باستطاعة ابنها توماس أو توم ــ كما تحب تسميته ــ أن يدركها. ولم تكن تفوّت فرصة إلّا وتحدّثه فيها.
«كان توم شاباً فائق الذكاء، متعاطفاً، ويتعامل مع الناس بسهولة»، تقول والدته. وكان من النوع الذي يطرح الأسئلة ويبحث عن إجاباتها بنفسه. اهتمّ المصوّر البريطاني الشاب البالغ 21 عاماً بتوثيق كيف تعمل حركة التضامن العالمية، الدروع البشرية خاصةً. متأثراً بقصّة رايتشل وراغباً بمعرفة حقيقة ما حصل لها، قرّر الذهاب إلى غزة بعد أن ذهب إلى مخيم للاجئين في العراق ثم في الأردن. «كلّما اقترب من غزّة كلّما ازدادت أسئلته والأجوبة التي حاز عليها، وكلّما زاد غضبه حول ما يحصل هناك»، تقول والدته. كان غاضباً كيف لولادة إنسان فقط في مكان معين من العالم أن يكون لها كل هذا الأثر، مقارناً كيف للفارق بين الولادة في لندن أو في «إسرائيل»، أو في فلسطين، أن يرسم مسار الإنسان. لكن توماس تخطّى المسار المرسوم له بقراره الذهاب إلى غزة. هناك، أطلق جندي إسرائيلي النار عليه، عندما كان يحاول حماية أحد الأطفال من طلقات الجنود القتلة. قبل وفاة توم بنهار ألقي القبض على الجندي الإسرائيلي بتهمة القتل. وكما يحدث دائماً في دولة الاحتلال، لم تثبت على القاتل تهمة القتل المتعمّد. المحاكمات سخيفة، وتقول والدة توماس إنّ الإعلام الإسرائيلي تذرّع بأنّ ابنها كان يلبس ثياب تمويه ويلوّح بيده بمسدّس. كان هذا مستحيلاً وتوجد أدلّة صورية تثبت العكس. لكنه الاحتلال، والاحتلال هو نقيض العدالة. أدين الجندي الذي قتله بثماني سنوات سجن. لكن يجب أن لا ننسى أن توم بريطاني. وأن آلاف الفلسطينيين يقتلون، ولا أحد يحاكم قتلتهم.
أثناء زيارتها غزة فوجئت والدة توم برؤية التمييز ضدّ الفلسطينيين في كل مكان. بعد موته حصلت على المذكرات التي كان يكتبها، وتفاجأت بأنها تتعرف إلى ولدها من جديد. كانت كتاباته تظهر غضبه من الطريقة التي يعامل بها الإسرائيليون الفلسطينيين. وكان غضبها شديداً عندما تذكرت كيف مات، وكيف يموت الآخرون.


العدالة للفلسطينيين

زار الثنائي كوري غزة 5 مرات، أولها كان بإقناع من حكومة الولايات المتحدة الأميركية لحكومة العدو الإسرائيلي، وآخرها كان في الـ 2012. وبعدها باءت محاولاتهم في الفشل. قضائيّاً، يقرّ الثنائي أنّهم حصلوا على امتياز رفع قضيتهم أمام المحكمة، امتياز لا يستطيع الفلسطينيون الحصول عليه. ولكن على صعيد القضية نفسها، استطاع الوالدان رفع القضية إلى «المحكمة العليا في إسرائيل»، لكن العدالة لم تتحقق. ويقول السيد كوري إنّ رايتشل توفيت وتحقّق العدالة لابنته يكون بتحقّق العدالة التي كانت تسعى وراءها رايتشل: العدالة للفلسطينيين.