يتمتّع لبنان بميزة مقارنة لجهة اليد العاملة الماهرة، التي تتيح للبلد إمكانيّة التحوّل إلى مركزٍ رائدٍ للخدمات والتكنولوجيات الحديثة في الشرق الأوسط. وينجم عن هذا التطوّر خلق الوظائف العالية المردود للشباب المتعلّم في قطاعات التعليم، والصحة، والمصارف، والإعلام، والسياحة، والتكنولوجيا الحديثة والأعمال التجاريّة الزراعيّة. غير أنّ القطاع الخاص في لبنان يعاني. والكثير من المتخرّجين الشباب يهاجرون في نهاية المطاف إلى بلدان تقدّم لهم فرصاً أفضل، حارمين لبنان من إمكانيّة إسهامهم في ازدهاره.يُعزى ذلك، إلى حدّ كبير، إلى السياسات الاقتصاديّة المواتية للشركات، من غير أن تكون في الواقع مواتية للسوق. فمن شأن بيئة الأعمال المواتية للسوق أن تتيح لجميع الشركات إمكانيّة المنافسة العادلة على حصص السوق، كما تشجّع المواهب الجديدة على إنشاء الشركات ودعم الشركات الصغيرة والمتوسّطة الموجودة والحسنة الإدارة، حتّى تنمو وتحقّق النجاح. غير أنّ البيئة الحاليّة المواتية للشركات تدعم بعض الشركات الكبيرة، ويتمّ ذلك في معظم الأحيان على حساب المنافسين الأصغر حجماً، والذين ليس لديهم الشبكة نفسها من العلاقات.
في ظلّ البيئة الحاليّة، يُعاني أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسّطة من البيروقراطيّة منذ اليوم الأوّل لإنشاء الشركة. ويتضمّن ذلك اجتياز دهاليز معقّدة من الأنظمة ودفع عدد من الرشى، إذ يُضاف وهن المؤسسات الحكوميّة إلى آثار الأنظمة المعقّدة والمنفّذة على نحوٍ غير متكافئ. وعلى سبيل المثال، يحتاج صاحب مشروع محلّي لتأسيس شركة إلى رأسمال أوّلي قيمته 3,219 دولاراً على الأقلّ، أي ما يساوي 40.6% من متوسط دخل الفرد، مقابل 1.6% من متوسط دخل الفرد اللازم في الولايات المتّحدة [1].
الشركات المدعومة سياسيّاً تشكّل 43% من مجموع الشركات الكبيرة في لبنان


يُعدّ الكثير من الإصلاحات الرامية إلى تحسين بيئة الأعمال بمثابة "أرباح سريعة"، لأنّها إداريّة أساساً في طبيعتها، ويمكن إنجازها في غضون سنة واحدة أو أقلّ من خلال العمل الوزاري. أمّا السبب في عدم تطبيقها حتى الآن، بحسب ما تشير اليه دراستنا البحثية، فيكمن في تركيز اهتمام صانعي السياسات على حاجات قلّة من الشركات الكبيرة، التي تتمتّع بمواقع مميزة بفضل علاقاتها السياسيّة، بدلاً من تلبية حاجات نمو الشركات الصغيرة، علماً بأن إسداء الخدمات للشركات الكبيرة والمدعومة سياسيّاً يترك آثاراً سلبيّةً عميقة على أداء اقتصاد السوق، يُضعف التنافسية وخلق الوظائف.
بيّنت دراستنا البحثية الجارية أن العديد من القطاعات المهمّة بالنسبة إلى النموّ الاقتصادي تتّصف بمستويات عالية من تركّز السوق في لبنان. يُردّ ذلك، في العديد من الحالات، إلى الامتيازات السياسيّة التي يتمتّع بها بعض الشركات المختارة. وتتضمّن هذه الامتيازات تطوير مزايا واسعة النطاق من حيث الكلفة مقارنةً بمنافسيها غير المدعومين، معاملة تفضيليّة من جانب الجهات الناظمة، ما يؤدّي، من بين جملة مزايا أخرى، إلى نفاذ أفضل إلى المشتريات الحكوميّة، وتساهل في تطبيق الأنظمة، أو نفاذ أفضل إلى الأراضي. ولا غرو في ظلّ هذه الظروف أنّ تكون 61% من الشركات اللبنانيّة التي استطلعها البنك الدولي قد أبلغت أن الفساد يُعدّ بين أهمّ القيود التي تعيق عمليّاتها [2]. ويشير الاستطلاع نفسه إلى أنّ 30.2% من الشركات قد أبلغت أنّها تتوقّع دفع الرشى لضمان العقود الحكوميّة، في حين توقّع 41.8% من الشركات دفع الرشى للحصول على رخص البناء.
تشمل القطاعات التي تسيطر عليها الشركات المدعومة سياسيّاً في لبنان المصارف، والإعلام، والتعليم، والطاقة، والصحّة (المستشفيات إضافة إلى استيراد الادوية وتوزيعها)، وبناء العقارات، وتعبيد الطرق، واستخراج المياه وبيعها، والمناجم (التي تتضمّن المقالع)، والاتصالات، والمشروبات الخفيفة، وإنتاج الأدوية. وتتمتّع الدولة بالنفوذ في جميع هذه القطاعات، عبر الرخص على سبيل المثال، أو تطبيق قوانين تصنيف الأراضي، أو تنظيم جودة الخدمات في المدارس والمستشفيات، أو السيطرة على المشتريات الحكوميّة. وفي جميع هذه القطاعات، تمارس العلاقات السياسيّة الضغط على الموظفين الحكوميّين للتساهل أكثر تجاه الشركات المدعومة سياسيّاً، ما يتيح لها اكتساب مزايا غير عادلة في السوق.
وتضطلع الشركات المدعومة سياسيّاً بدور بارز في الاقتصاد. وهي تشكّل 43% من مجموع الشركات الكبيرة في لبنان (التي تضمّ أكثر من مئة عامل)، وتوظّف نحو 16% من اليد العاملة (النظاميّة)، كما تميل إلى السيطرة على القطاعات التي تعمل فيها. وتسيطر هذه الشركات المدعومة سياسيّاً مجتمعةً على 70% من السوق في القطاعات التي تعمل فيها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشركات المدعومة سياسيّاً في لبنان تسجّل أيضاً مستوىً أدنى من إنتاجيّة اليد العاملة مقارنة بالشركات غير المدعومة من القطاعات التي تعمل فيها. ويؤشّر ذلك إلى أنّ قوّتها تكمن في أفضليّة الكلفة التي تتمتّع بها بفضل امتيازاتها وليس بدافعٍ من اعتمادها لطرائق تنظيم أكثر نجاعةً، أو تعيينها لمديرين أكثر مهارةً، أو استخدامها لتكنولوجيّات أكثر كفاءةً.
إلى ذلك، فإنّ وجود شركة مدعومة سياسيّاً يحبط الحركة في كامل القطاع الذي تنشط فيه، والذي يسجّل على وجه الخصوص نتيجةً لذلك معدّلاً أدنى من تأسيس الشركات وخلق الوظائف الجديدة. ولا تنحصر المشكلة الأساسيّة في أنّ الشركات المدعومة سياسيّاً تشهد نمواً أكبر من منافسيها، بل في كونها تردع نموّ منافسيها، ما يضرّ بإمكانيّات النموّ الاقتصادي. وبالفعل، يتّضح من دراستنا أنّ الشركات المدعومة سياسيّاً، وعلى الرغم من إسهاماتها المباشرة في نموّ العمالة، فإنّ سيطرتها على قطاع معيّن تؤثّر في خلق الوظائف لدى منافسيها، ما يترك في نهاية المطاف أثراً سلبيّاً على القطاع ككلّ لجهة العدد الإجمالي للوظائف الجديدة. وفي النتيجة، تفقد هذه القطاعات المستوى الوسطي لجهة توزيع نموّ الشركات، ما يعني أنّها تميل إلى أن تصبح متعارضة، ومقسّمة بين شركات كبيرة وغير كفوءة تتمتّع بشبه احتكار، وشركات صغيرة وغير كفوءة تفتقر إلى القدرة على الابتكار والنموّ.
وتشير هذه النتائج إلى أنّ الشرط المسبق لتحسين أداء الشركات في لبنان يكمن في إعادة التنافس العادل والنشط كمبدأ محوري لاستراتيجيّة النموّ في البلد. وتعود السياسات العامّة التي تشجّع الشركات الجديدة على دخول الأسواق بالمنفعة، شأنها شأن المبادرات التي تتيح لها النفاذ إلى الائتمان التفاضلي، أو إلى مجال في المناطق الصناعيّة. ولكن إن لم تتوافر الشروط التي تتيح لهذه الشركات الاستمرار في النموّ وزيادة حصصها في السوق، فإنّ أيّ جهد وطني للتشجيع على إنشاء المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة الحجم محكوم بالفشل.
ولا يتطلّب تحسين التنافس إنشاء مؤسّسات حكوميّة جديدة. ولكن، من الضروري ضمان العدالة في عمل المؤسسات القائمة، الذي يجب ألا يصبّ في مصلحة نخبة مدعومة سياسيّاً. وينطبق ذلك على جميع المؤسّسات التي تتمتّع بالنفوذ على نموّ القطاع الخاص، بدءاً من السلطات الضريبيّة، مروراً بالجهات المسؤولة عن إنفاذ حقوق المستهلك وجودة المنتجات (كما في قطاعي الصحّة والتعليم على سبيل المثال)، وصولاً إلى الإدارات التي تمنح رخص البناء أو الأعمال. ويمكن للحكومة أن تشرع في دعم هذه الخطوات على نحو فعليّ، من خلال إصدار المراسيم التي تعالج النواحي المختلفة لتسهيل تسجيل الشركات، وتخفيف الاجراءات والوقت والكلفة، وتحسين الشفافية في أنظمة التجارة والمناقصات العامة، واستخدام التفتيش القائم على المخاطر، واعتماد مقاييس الأداء للقضاة. ففي جميع هذه الحالات، تدعم الاستنسابية التي يمارسها البيروقراطيّون الضغوط التي تمارسها النخبة المدعومة. وتكمن الطريقة الفضلى لضمان تكافؤ الفرص في الحدّ من الاستنسابية عن طريق اعتماد قواعد بسيطة ومزيد من الشفافيّة.
تعتبر استراتيجيّة عدم التسامح هي الفضلى للانتقال من المأزق الحالي، حيث يسود الفساد. ولا شكّ في أن لهذه الاستراتيجيّة أهميّة محوريّةً في إرساء واقع جديد، تدرك فيه الشركات أن الفساد نادر، وأنّ أيّ محاولة في هذا الاتّجاه ستكون واضحة وستتم المعاقبة عليها بسهولة. ومن شأن التركيز المبكر على حالات فساد سافرة أن يقطع شوطاً كبيراً في تبيان انطلاق مرحلة جديدة من عدم التسامح، وسيادة حكم القانون على الدوافع السياسيّة القصيرة النظر.
ويعتبر الانتقال من نظام اقتصادي مواتٍ للشركات إلى آخر مواتٍ للسوق ضروريّاً ومؤاتياً بالنسبة إلى لبنان. وتلقي التوصيات السابق ذكرها الضوء على تغييرات يمكن تنفيذها حالاً. وسبق لعدد من البلدان أن نجح في إدارة برامج للإصلاحات التنظيميّة، التي تعتبر معايير مرجعيّة لقياس كفاءة صانعي السياسات في البلدان المعنيّة. وكذلك، فمن شأن تنفيذ الإصلاحات أن يؤدّي إلى نتائج ملموسة، وأن يبني الثقة على الصعيد الوطني في وزارة الماليّة ووزارة الاقتصاد والتجارة، كما على المستوى البلدي. ويكتسي ذلك أهميّة كبيرة في ظلّ هذه الأوقات العسيرة. وإلى ذلك، باستطاعة هذه الإصلاحات أن تعزّز قدرة الدولة وأن تمهّد الطريق لتنفيذ سياسات صناعيّة ذكيّة، من شأنها أن تطلق مع الوقت فرص نموّ أكبر في قطاعات جديدة وناشئة.
بترخيص من المركز اللبناني للدراسات
* جامعة كولومبيا
** جامعة هارفارد
[1] قاعدة بيانات تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2017 – البنك الدولي
[2] قاعدة بيانات استطلاعات المؤسسات 2013 – البنك الدولي، آخر النتائج بشأن لبنان