يبدأ اليمني بدر أحمد لعبته السَّردية في رواية «بين بابين» (دار نينوى) منذ تمهيده بقول للكاتب الأميركي نلسون ديميل: «إذا اعتقدت أن ما تقرؤه يبدو حقيقياً فهو كذلك، فالحقيقة أشدُّ غرابةً من الخيال». يُدخِلنا شيئاً فشيئاً في مناخاته الهذيانية ضمن «تيار الوعي» كخيار روائي مُناسِب لقسوة العوالم التي يزجُّنا بها. نُصبِح نحن أيضاً أسرى الغموض والوحشة والظلمة، مثلُنا مثل ذاك الشاب من منظمة التحرير الفلسطينية الذي لم يعد يعرف كم من الزمن قضاه في «زنزانة رهيبة». وهذا ما استدعى لديه أعاصير من الأفكار الغرائبية، وتأكيداً لقدرة الذات على تحقيق نفسها عبر النبش بالذاكرة بكل ما تختزنه من شخوص وتواريخ وأحداث وأمكنة وروائح، وربطها مع بعضها كأجزاء أحجية عصية على الحل، تاركاً فسحةً أمام خيال القارئ لإتمام القصة، وفتح باب آخر في جدران الزنزانة كبرزخ للخلاص. قادنا هذا الاندغام بين الشخصية الرئيسية والراوي، إلى التَّماهي مع مجريات الحكاية، ما عزَّز من توريط القارئ بوقائع من التاريخ السياسي.

هناك حرب الخليج الثانية، وأيلول الأسود، والحرب الأهلية اللبنانية، وغزو أميركا للعراق، وتزعم بوريس يلتسن وتصفيته لخصومه بمن فيهم الزعيم الشيشاني جوهر دوداييف، وغيرها من الأحداث. ساهم هذا بشكل أو بآخر، في امتناعنا عن تصديق ما ورد في الصفحة الأخيرة من الرواية: «كل الأحداث الواردة في الرواية هي من نسج الخيال ولا تمت إلى الواقع بأي صلة». إذ أن القوة في استحضار الذاكرة، والرَّبط المُحْكَم بين خيوط السَّرْد وتشابكاتها، والاقتراب من الصيغة التسجيلية في الرَّوي، جعلت من «بين بابين» أشبه بوثيقة، أو «درس في بشاعة الحرب» كما جاء على لسان بطلها. كأن بدر أحمد يقرأ واقع اليمن وما أصابه بسبب خيانات الأخوة، راغباً في صنع ثقب جديد في جدار عزلة الرواية اليمنية في زمن الحرب. يدين الروائي اليمني الخيانة بقسوة، ويُرجع إليها كل عذابات بطل روايته، بدءاً من الاجتماع في ساحة معسكر أحد فصائل الثورة الفلسطينية مع قيادتها الذي انتهى بمقتل 222 مُقاوماً بنيران الطيران الإسرائيلي نتيجة خيانة من قيادة ذاك المعسكر. بطلُنا هو أحد الناجين القلائل إلى جانب رفيقته في النضال وحبيبته العشرينية مريم التي طالبته بألا يأكل نفسه بعد تلك الحادثة «فليس للعرب عدوٌّ أشدُّ ضراوةً عليهم من أنفسهم». تعرض عليه مريم العودة إلى «صخب المعسكر» مرةً أخرى، وهناك تُحاول اغتيال «أبو سطام» القيادي السابق في «أيلول الأسود» بسكين في صدره، فتقع صريعة رصاص أتباعه، فيما يدافع البطل عنها مستغرباً ما حصل، ليجد نفسه أسير زنزانة قال عنها: «يحولك طول المكوث فيها تحت وقع ذلك المزيج المتوحش من العذاب إلى مسخ بشري يبحث عن أي أداة ليضع حداً لحياته ولعذاباته».

تخيل نفسه الكونت دي مونت كريستو الذي نجا من سجنه

لكن في ظلمة السجن الانفرادي، لم يكن أمام البطل إلا كشف ذاته، له ولنا. ينبش ذاكرته محاولاً النجاة من إحساسه بأنه مجرّد «جثة تُفكِّر»، ويكف عن التساؤل عن أحلامه، ويواسي نفسه بأشباهه ممن قرأ عنهم، وعايشوا ظروفاً مؤلمة وقاسية كظروفه. هنا، تبدأ لُعبة الخيال، مع استرجاعه صوراً ومشاهد تنبع من زاوية نائية في أقاصي وعيه «لم تصلها بعد مخالب الأفول». يتخيل ذاته الكونت دي مونت كريستو الذي نجا من سجنه بمساعدة القس فاريا عبر حفر سرداب طويل إلى الخارج، فيما يتقمص الرجل الثالث في الرايخ الألماني رودولف هس منتظراً رد تشرشل على عرض الصلح مع ألمانيا. لا يغادر البطل سجنه الانفرادي إلا بعد 27 عاماً مملوءة بـ «كمٍّ لا متناهٍ من الفراغ والوحدة والصمت»، من دون تحديد الطريقة التي استطاع عبرها النجاة بذهنه من«مخالب الجنون المتوحشة». الخيال إذاً في مواجهة الموت، والذاكرة في مجابهة الفناء. لقد استدعيا معاً الكثير من أفكار السجين الذي لا يعرف عن الوقت أكثر مما تُرسِله فتحة صغيرة في السقف من ضوء النهار، ولا عن سجَّانه أكثر من يده التي تُشبه يد والده، وشتائمه المتكررة. ذلك ما جعله يقول: «أنا وخيالي كلانا أصبح مصيره مرتبطاً بمصير الآخر. لا.. لا.. الصحيح أنه ينتظرنا المصير ذاته في هذه الزنزانة التي تبدو لي كثقب أسود خبيث امتص وما زال يمتص أحلامي وكل ذكرياتي وبالتأكيد جزءاً كبيراً من صحتي». لكن ذلك لم يُخفِّف من الآلام المتعاظمة، لا سيما عند التفكير بنزعة الشر الرابضة في عمق المخلوق البشري، والشعور بالخديعة، و«أفكار بوهيمية وسوداوية أخرى بإمكانها ملء رأسَي دوركايم وفرويد بالصداع لثمانية عشر عاماً قادمة». وكمُداورة على تلك الآلام، لجأ البطل إلى اختراع وجه «أنس» من قليل من الحصى جاعلاً إياه طوطماً له الكثير من القداسة والرهبة. قام أيضاً بمجزرة للصراصير التي تشاركه طعامه وتعمق التهابات جروح السياط على قدميه، وأيضاً إلى تسكين الألم بآلام أكبر منه. كل ذلك بات له طعم آخر مع اكتشاف زر الإضاءة على الجدار، والنور الذي أوقف لعبة الخيال برمَّتها، لتتحول الزنزانة إلى مجرَّد جدران كتيمة، والصرصور إلى حامل رسالة فيها دليل الخلاص. هنا بدأ العمل المُضني، المتزامن مع متوالية آلام حصى الكلى، لفتح ثغرة في جدار الزنزانة بالأظافر وملعقة الطعام. هكذا تنتهي الرواية بصعق الجلَّاد كهربائياً، ومن ثم فتح باب حديد في الزنزانة يُفضي إلى الحرية، مع الحفاظ على الغموض في كثير من مفاصل الحكاية كموضوعة أساسية جعلت بطل الرواية يقول: «أريد بكل كياني أن أحصل على القصة كاملة، أن أعرف لماذا أنا هنا وكيف دخلت إلى هذه الزنزانة، وماذا اقترفت لأستحق هذا العقاب، لكني أبدو كمن يحاول جمع أجزاء صورة ممزقة فقدت الكثير من أجزائها، أو كمن يحاول حل أحجية عقيمة حاول الكثيرون حلها دون جدوى، يفنى الإنسان وتبقى الأحجية عصية على الحل، عصية على الفهم، ربما هي أحجية الحياة تلك المأساة التي وجدنا أنفسنا محشورين بين طياتها رغماً عنّا، نحاول عبثاً فهمها، تنميق وجهها، وربما نحاول تطويعها، وقد تخدعنا بانسياق كاذب تبديه لنا، لكنها في الحقيقة تجرفنا بقوة نحو الحاوية الأزلية التي لا فرار منها، هاوية الفناء، هذه الزنزانة ليست سوى دنيا صغيرة سأغادرها، نعم سأغادرها لكني أخشى أن أغادرها إلى دنيا أخرى أكثر وحشية وأكثر إيلاماً».