يرى الروائي اللبناني جبور الدويهي الكتابة صناعة وحرفة، يراها نسيجاً، لتأتي مهمة الكاتب من خارج هذا النسيج عبر دور مقتضب نزيه وحقيقي. فالكاتب ــ بحسب الدويهي ـــ «يُظهر الواقع ولا يصنعه». وما نقرأه في الطبعة الجديدة من رواية «عين ورده» (2002) التي أعادت «دار الساقي» إصدارها، إشعاراً بذلك الدور. وإن تبدّى دوراً متواضعاً، إلا أنّه موقع مثالي للحديث عن الأماكن الأليفة والناس الحزانى.
تروي «عين ورده» حكاية منزل قديم مرهون لصالح الوقف الذري، وتسبب حالة المنزل العالقة ارتباكاً لدى سكانهِ، الذين يأخذ راوٍ عليم على عاتقهِ رواية مصائرهم الممتثلة لنزواتهم الذاتية وانفعالاتهم. يظهرون أشخاصاً عاطفيين، عنيفي الطباع أو لا مبالين، مأخوذين بالأمجاد أو رافضين لها، يبنون أسباب سعادتهم الخاصة أو يعيشون في أبراج شيّدوها من الأسى والوحدة والنكران. ما جعل من الرواية نصاً ثرياً متدفقاً وسلساً، مشوباً بالرغبة وعصياً على اختبارها، غنياً بالحياة ولو أنّ جل أحداثهِ في منزل منسي يتشاركه شابان بعد زواج أختهما زواجاً عاقاً، وبعد رحيل العمة إلى منزل للرعاية الصحية. يقول رضا الباز، عندما توزع والدته جوليا الميراث: «لا يمكنني تحمل أن يهبط عليّ المساء في غير عين ورده».

في المقابل، يصفه شقيقه جوجو عندما يرى الباب الحديدي الذي أقامه بين الطابقين بـِ «الأبله». تصف مرغرت زوجة جوجو النمساوية البيت بأنّه «بيت مجانين»، في حين كانت جدتهم قد خصصت دفتراً لكبار زوار المنزل. وهو المنزل ذاته الذي وضع جوجو إشارات طرقية أمامه وكتب عليها: «هذا الطريق لا يؤدي إلى أي مكان». بالتالي، نحن إزاء مجموعة شخصيات تتصرف على نحو ساخر، وتجعل حياتها دراما تلقائية متصاعدة ومستمرة. شخصيات لا تتوقف عن إهانة بعضها بالكلمات والسلوك، يجمعهم الكاتب على إيقاعات تشبه العيش في منزل ما عاد يجمع سكانه سوى الجدران وتلك الرغبة الملحة والمحبطة بالظهور مثل أسرة متحابة ومتماسكة أمام الآخرين، إلا أنّ الزمان يعبر ولا يترك سوى أثر النهايات الصادمة. إذا ما اجتمعوا، فإنهم يجتمعون للشكوى، يختلفون على كلّ شيء إلى درجة أنّهم وضعوا آلة تحصيل نقود تجنباً لاقتسام فواتير الهاتف. عندما تعتذر ناديا لرضا عن القدوم للمنزل تصارحه بأنّ «هناك شيئاً مشدوداً كالوتر في بيتكم لا يمكنني تحمله». وحاول الكاتب عبر الفن الخالص أن يرخي أطراف ذلك الوتر.

تسبب حالة المنزل العالقة ارتباكاً لدى سكانهِ

عندما يألف رضا الباز فتاة يُسعد أهل المنزل، إلا أنّ الكاتب يبني قصة حب عذري متينة، إذا ما حال شيء لالتقاء الحبيبين فيها، تتدخل الطبيعة للحيلولة دون ذلك. يفقد رضا حبيبته، وتبقى في ذهنه تلك المكالمات الطويلة التي لم يقولا فيها شيئاً، وذلك التجريب المؤسف لممارسة الحب في غرف فنادق كثيرة في بيروت التي تعيش حرباً أهلية قبل أن ينتبها إلى إفراغ كل ما لديهما في الكلام. ترحل ناديا وهما يقرآن سوياً كتاباً لبروست، وكانت القراءات المشتركة أحد طقوس غرامهما. لم يستطع رضا أن يجزم؛ هل كان يسحره ما يقرأ أم لأنّ ناديا كانت تقرأ لهُ! وبالمثل كانت ناديا تبتسم له، لا لما يقولهُ. وما كان يدرك، أي منهما، من ينقل الذعر للآخر. منذ اللقاء الأول في مدخل بناية حيث انتظر كل منهما الخطوة الاولى، لم يفترقا، وبدا أن «لا قدرة لهما على الفراق كأنّهما محاطان بالأعداء من كلّ جانب».
كانت ناديا حتى رحيلها علامة الحياة الوحيدة التي عاشها رضا، قبل أن يعتزل الحياة في غرفة من الطابق الثاني لمنزل عين ورده، يرفع له العرب الطعام في سلة تنبئ بشكل نهاية، انزاح السرد إليها ببطء واقتدار ومتعة.
في القبو، التم العرب، وقد أحضرهم آل الباز في البداية لحسابات انتخابية ثم أبقوهم للاهتمام بالمنزل وبرضا، لا سيما بعدما باتوا أحراراً في «بيع أنفسهم». تمثل عائلة المانع ذلك النقيض الذي يهابه آل الباز، فالراديو الذي كانوا يسمعونه أيام الحرب صار في غرفة عباس المانع لسماع الأغاني، وكرسي البيانو صار حطباً. حتى المنزل، تشهد ملكيته تنازعاً بين الكنيسة وبين صهر العائلة المسلم، كون رضا عازفاً عن الزواج ولم يسلم لزوجة جوجو أطفال، فالأول منشغل بالشطرج، والثاني مشغول بالحرب الأهلية. وقد جعل الكاتب من ضيفة آل المانع شركاً مريراً لصغير آل الباز، إذ أنّ الرجل الذي يراقب بيروت وهي تتقدم باتجاه الجبل، الذي يراقب الناس والسيارات عبر النافذة وهو يلعب الشطرنج... هذا المنعزل والغريب، فتن بضيفة العرب الغريبة. وعندما تزوره والدته «تتأمله كمن يتأمل الخراب». كأنّها بتأملاتها تلك كانت تستدعي ذلك الخراب الذي ما هو سوى احتفاء بالخذلان وتتويج له.
تزخر الرواية بالكثير من المشاهد التي تشكل احتفاء جماعياً بالحب أو الموت. ربما بلغت ذروة الحرب في مشهد المجتمعين قرب المذياع لاستراق السمع على مكالمة أم ترجو من ابنها مقاومة الموت. وربما بلغت ذروة الحب عندما احتشد الناس لرؤية رضا وهو يمارس الحب مع ضيفة العرب. وعبر هذه المشاهد الجماليّة راح الدويهي يحيك نسيجه الأخّاذ.