إن حلقة أحداث الأسبوع الفائت، في ما سُمّي أزمة النفايات في لبنان، لا يجب أن تغرّنا بالنسبة إلى كيفية تكوّنها. تستمع الى ما يقال على شاشتك، أخبار عن رئيس الوزراء يهدد أو يطرح أو يلمّح بالاستقالة على مدى الأسبوع وكأنه يترجّى الجميع منعه عن ذلك. مجلس الوزراء يستمر في مناقشة البروتوكولات وآليات العمل، الأحزاب السياسية تحذّر من خطورة الوضع وتتقاذف المسؤوليات عبر نوابها حول أي منطقة طائفية ستكون لها الحصة الأكبر من الطمر الآتي، وأي منطقة تأبى أن تكون مكباً لنفايات الآخرين. تحاول أن تعرّب كل هذه المعلومات.
تعرفهم جميعاً، بالوجوه، هؤلاء الساسة. منذ أن كانت الاستخبارات السورية وصيّة على البلاد، وهم أمامك يعتمدون الأسلوب نفسه من المجادلة العلنية المزيّفة، وقد مرّروا الكثير من الصفقات على «ظهرك»، التي لا نزال حتى اليوم ندفع ثمنها من جيوبنا. ماذا عن اليوم؟ ما هي الحيلة؟ هل من عفوية ما في ما يحصل؟
قد يبدو أن التقاء مهلتين زمنيتين، مهلة إغلاق مكب عين درافيل ومهلة انتهاء وقت المناقصة التي تنظمها وزارة البيئة لتلزيم عمليّة التخلّص من النفايات ــ وقد بقيت مدينة بيروت وضواحيها من دون عروض، ما حال دون فض العروض للمناطق الأخرى ــ هو (الالتقاء) المسؤول عن انسداد نظام إدارة المخلّفات، وأن الحالة، تباعاً، ازدادت سوءاً على وقع تكدّس النفايات في الشوارع من حول الحاويات. لكن الأمور لا يمكن أن تكون بهذه البساطة لمن يهتم بنظرة إدارية للأمور. لو كانت مأزومية الوضع تبعاً لهذه الأسباب وحدها، لماذا لا يصار الى اعتماد أي حلٍ مؤقت وطارئ، بانتظار «المرحلة الانتقالية» «للخطّة الوطنية» التي يصرّ مجلس الوزراء ووزارة البيئة على اعتمادها؟
فلنتوقّف عند الحل التالي على سبيل المثال. في بيروت، تمرّ شاحنات نقل النفايات مرّتين في الشارع نفسه يومياً، فيما أنها في منطقة إيسلينغتون الإدارية في لندن مثلاً، تمر الشاحنات مرة في الأسبوع (يمكن التحقق في موقع المجلس البلدي، وهناك أحياء لا تمر بها الشاحنات سوى مرة في الأسبوعين، والدورة اليومية لا تخص إلا المحال التجارية). قد يكون بالتالي واقعياً الافتراض أننا، لو كنا في لندن، لما كانت أزمة النفايات لتبدأ قبل يوم الثلاثاء في 28 تموز، أي عندما تتخلف الشاحنات عن المرور بالأحياء بعد مرور أسبوع على إعلان شركة سوكلين توقّفها عن عملية الجمع بسبب «امتلاء المخازن» الذي تدّعيه (الأخبار في 20 تمّوز). وكان تكدّس النفايات على الطرقات ليكون بوتيرة سبعة أضعاف أبطأ. والأزمة بدأت ملامحها منذ اليوم الأول أو الثاني بعد توقف اللمّ.
طبعاً، سيأتيك لبناني مغفّل ليقول لك «ولكنهم في لندن حضارة وعندهم نظام ودولة. شو عم تحكيني بلندن». هذا عادة جواب المرء الذي يجهل كم أن الوضع في لندن لا يختلف عن أي مكان آخر على كوكب الأرض، وأن فئات الشعب هناك باستطاعتها أن تنتخب أناساً أكثر غباء وإجراماً ممن ينتخبهم اللبنانيون من سياسيين محلّيين. والسياسيون في لندن وفي الغرب الصناعي اليوم في طور أخذ مجتمعاتهم الى المزيد من التأزم الاقتصادي ومن التدمير لمكتسباتهم التاريخية. على الأقل، في حال لبنان، قد يجادل المرء بأن لدى الناس عذراً بأنها لم تشهد ماضياً مجيداً لاتهامها بالانحدار من بعده. المسألة ليست في «طباع» الناس، وهي تستند إلى إدراك الآتي: إذا قام المرء بترتيب حاويته المنزلية، ولا نقول بغية تحضيرها للتدوير، إذا قام فقط بترتيبها، فلن يكون عنده درجة تكدس النفايات النتنة نفسها في حاويته، ولا بالتالي في حارته. إذا وضع في سلة واحدة في المطبخ المواد العضوية مثل بقايا المأكولات، وفي سلة أخرى في الحمام جَمَع المحارم، وترك المواد الصلبة للتخزين في مكان آخر مثل الشرفة أو حتى سلة أخرى، حيث إنه لا ينبعث منها روائح، فلن تمتلئ سلتا النفايات النتنة بسرعة. وبعيداً عن الفرضيات، إذا صدق الناشط البيئي بول أبي راشد في ما نشره على صفحته على الفايسبوك في 23 تموز، فإن نسبة 42 في المئة من نفايات بيروت اليومية هي من المواد التي يمكن استردادها، ما يعني أقلّه أن مشكلة التكدس على الطرقات ستكون حوالى نصف ما هي عليه اليوم.
هذا قليل مما كان ينبغي على الحكومة أن تقوم به، أو على رئيس مجلس الوزراء، المحترم، المرموق، والقلق على سمعته، أن يدعو إليه. كان مجرد مؤتمر صحافي ليفي بالغرض. يقدّمه وزير البيئة من أمام قاعة مجلس الوزراء، يُبث على شاشات التلفزة عند الساعة الثامنة مساءً، ويمكن الاستعانة بأحد المتدرّبين الشباب من مكاتب السرايا الحكومية (يعني «وجه شبابي» بشوش أو بريء، لا يهمّ، من الطبقة الوسطى العليا) لتفسير الخطوات التي يجب اعتمادها للجمهور عبر برنامج «الباور بوينت» إذا ما كان وزير البيئة شخصياً عاجزاً عن تلاوة الأسطر الثمانية أعلاه. لو قامت الحكومة ومعها الأحزاب السياسية المهيمنة بفرض هذه الخطوات، محذرةً من تفاقم الأزمة، لطبّقها الناس. كان سكان الطبقات السفلى للبنايات، الذي يقومون اليوم بحرق النفايات المكدسة على مقربة من شبابيكهم، ليساعدوا الحكومة عوضاً. لو علموا أن الحكومة تدعم ما يمكن أن يخفف من قلقهم ولو مؤقتاً، كانوا ليعتدوا على ناطور بنايتكم، أو من يعمل عندكم عبداً مأجوراً من جنسيات الدول الفقيرة، إذا ما وجدوه ينقل الى حاوية الطريق، ضمن سلّات نفاياتكم، قناني البيبسي والحليب الفارغة التي مطلوب الاحتفاظ بها.
لكن الحكومة لا تعتمد أي خطة طوارئ، ولا تدعو الى أي نوع من التعبئة الوطنية أو العمل الجماعي. ويمكنكم التصوّر، في ظل هذا الواقع، ماذا سيكون مصيرنا مع هذه الطبقة الحاكمة عندما تحل بنا كارثة طبيعية أكثر جدّية. ليست صدفة أن يبدو الناشطون البيئيون في هذه الأيام بمظهر «هيبيٍ» وحَمس، ينادون الناس «بالعمل سوياً». فقد أعطى هؤلاء الموضوع تفكيرهم وأدركوا أن بإمكان العمل التعبوي، أي غير المكلف مادياً والنابع من إرادة الناس وحدها، أن يؤدي إلى نتيجة فعّالة وسريعة وأن هذا ما ينبغي القيام به عندما تُشلّ السلطة الرسمية. لماذا لا تقوم الأحزاب اللبنانية السخيفة، تلك المتخصصة بالتعبئة التربوية وشل النظام والغضب السنّي، بالدعوة إلى ذلك والتشجيع عليه؟ لأن هؤلاء لا يريدون أن يدرك الناس أن هناك «حلّاً» آخر للنفايات غير الحل المُعتمد في الخطة التي يعملون على اعتمادها في العقود القادمة، والجاري العمل به بمسمى آخر منذ أن جرى تلزيم الملف لشركة سوكلين في التسعينيات.
ففي العقدين الماضيين، كان يقضي عقد سوكلين بأن تقوم الشركة بقسطٍ من الاسترداد، على أن تستفيد من أسعار المواد المُستردة وحدها. لكن العقد نص أيضاً على وجوب دفع الدولة للشركة مبالغ قياسية من المال لقاء كميات من النفايات تقوم بطمرها. فراحت طبعاً الشركة بمذهب أنه يجب أن تطمر مجمل ما تجمعه، وذلك أيضاً في مكب واحدٍ، خالطة فيه المواد العضوية بالصلبة التي، باختلاطها تحت الأرض، تبعث بنشاطٍ كيماوي وتسربات شديدة الضرر على الطبيعة، لا يمكن إصلاحها. هي هذه الممارسة التي تسببت بتمرد سكان المناطق المجاورة لمكب عين درافيل، وبسعيهم منذ أعوام لإقفال المكب بعدما تضررت منطقتهم بمستوى ما تخلّفه قنبلة نووية. وهو الواقع الذي يمكن توقّعه للمناطق اللبنانية الأخرى التي سيقام عليها مكبّات للمضي بإدارة المخلّفات نفسها. فقد اتفقت الأحزاب الكبيرة على إعادة توزيع مغانم سوكلين بشكلٍ أنسب مما جرت عليه العادة في العقود الماضية، أي بالشكل المباشر الحصصي ــ المناطقي (سمّها اللامركزية، وقد تضمّنت «خطة» جبران باسيل للكهرباء المنطق نفسه لمن يذكُر)، وكل ما نراه الآن من مزايدات وخلافات وتهديد ووعيد ليس سوى وسيلة هذا الصنف من الحثالة في التفاوض والخداع.
أتمنى في الختام أن نكون متّفقين على شيء: إذا كان المقصود بالنفايات، أي مادة عضوية أو صلبة تحمل آثار الاهتراء والعفن ويريد المرء أن يتخلّص منها، فبحق ماركس، أن الطبقة السياسية والاقتصادية الوصية على لبنان هي أكثر النفايات سموماً.