تونس | اختفى تقريباً «الشارع التونسي»، من الشارع نفسه. أين ذهب عشرات آلاف التونسيين الذين احتلوا الشوارع والساحات خلال الأشهر الأولى من 2011؟ أين اختفى الذين ظلّوا لمدة سنتين أو ثلاث (إلى حدود أواخر 2013) ينزلون للتظاهر والاعتصام؟ للمرة الأولى في تاريخ تونس الحديث كان الشارع أقوى من الحرّاس والعسس؛ كان في قلب المعادلة السياسية وليس على هامشها.
ولكن بعد سنوات من الضجة والفرحة والأحلام والفن والغضب، عاد الشارع إلى الهامش واسترد تدريجاً رصانته الكئيبة... فلماذا ترك التونسيون الشارع وحيداً وفارغاً؟ لماذا تركوه للمتاجر والمقاهي والبوليس؟ التونسيون الذين نعني، هم أساساً الفقراء، وبصفة أقل أبناء الطبقة الوسطى، وطبعاً النخب التي كانت تعارض نظام بن علي ومن قبله بورقيبة.

النُخب... شكر الله سعيكم!

هنا تحديداً، الحديثُ عن النخب التي كانت معنية بالتغيير وتناضل من أجله، وليس مثقفي الخدمات الذين كانوا يُسبِّحون بحمد بن علي ونظامه. الآلاف من النقابيين والحقوقيين والفنانين والمثقفين والسياسيين التقدميين الذين حلموا بتونس أكثر حرية وعدلاً. أولئك الذين حاولوا بمختلف الطرق حفر ثقوب في جدار السلطة السميك، والذين كادوا يقنطون من رحمة التاريخ لولا أن جاء «جانفي 2011» معيداً إليهم الروح والأمل.
لكن النخب لم تكن مستعدة لتحقق حلمها بتلك الطريقة وبتلك السرعة. فرحت كثيراً وارتبكت أكثر. فبعد «مئة عام من العزلة» وجدت نفسها تحت الأضواء والكل ينتظر منها إجابات (لا تملكها) لأسئلة المستقبل: كان الشارع مغلقاً في وجهها، وبعدما كانت أسوار الخوف تفصلها عن «الجماهير»، أصبحت هي في الواجهة. مئات الآلاف في الشوارع وملايين في بيوتهم ينتظرون من النخب أن ترسم «خريطة الطريق».
طبعاً لم تكن جاهزة، فالمسافة شاسعة بين النضال من أجل «الحد الأدنى» من الحريات وقيادة شعب ودولة. والنظام التونسي الذي اهتزّ في «جانفي» أدرك سريعاً مأزق «النخبة»، فراهن عليه كمخرج لأزمته. جرّها في مرحلة أولى للتفاوض عبر ما سُمي حينها «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي»، ثم دفعها في مرحلة ثانية نحو المستنقع «الهوياتي» عبر تحويل وجهة الصراع من ثورة ضد التفقير والاستبداد إلى معركة «النمط المجتمعي» بين «العلمانيين والإسلاميين».
في الأثناء، كان الشارع يفقد زخمه شيئاً فشيئاً، ونار الثورة تتحوّل إلى رماد. قبِلت النخب بانتقال ديموقراطي من دون شروط وضمانات، وساهمت في تبريد الشارع وإخراجه من المشهد السياسي، فكانت خسارتها مزدوجة. خسارةٌ لم تعِها جيداً في البداية بحكم «العمى» الذي يسببه الإدمان على أضواء وسائل الإعلام، ولكنها أدركتها عقب انتخابات 2011، وتذوّقت مرارتها جيداً بعد انتخابات 2014.

انسحاب «مبرمج» للفقراء

فقراء المدن الداخلية، وأخوتهم في الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى، كانوا أوّل من بادر بالخروج إلى الشارع في شتاء 2010/2011. مطالبهم كانت واضحة، لا لُبس فيها: تشغيل، تنمية، عدالة اجتماعية. صمودهم في وجه آلة القمع والقتل هو الذي جعل «النخب» تلتحق بالحراك فتضيف إليه المطالب السياسية ــ الحقوقية. لم تكن المرة الأولى التي ينتفض فيها الفقراء، ولكنهم هذه المرة صمدوا أسابيع ولم يعودوا إلى بيوتهم بعد يوم أو يومين كما كان يحصل في السابق.
استبشروا خيراً بسقوط بن علي واعتقدوا بأنّ الدنيا تضحك لهم أخيراً، ولكن خيبات الأمل تتالت. تمّ القفز على مطالبهم الاقتصادية ــ الاجتماعية، وتركّز النقاش العام حول الهوية، والدستور، و«الجمهورية الثانية»، ومسائل تقنية، ومتاهات أيديولوجية. كلّما عبّروا عن سخطهم، حاول النظام ومعه النخب إيهامهم بأنّ ما لم يتحقق بالثورة، سوف يتحقق بصناديق الاقتراع.
الانتخابات لم تأتِ طبعاً بالجديد، ولكنها جعلت فقرهم «أكثر ديموقراطية وشفافية». فقرٌ ازدادت حدّته في ظلّ مواصلة الدولة نهج الاستقالة من مسؤولياتها الاجتماعية ومن دورها الرقابي والتعديلي في الاقتصاد، تاركةً الأمر للمحتكرين والمضاربين والمافيات. هكذا، كان من الطبيعي أن يسأموا الشارع والمظاهرات والآمال، وأن يكفروا بالنخب التي أدارت لهم ظهرها وغرقت في «الترف الفكري».
رغم كل شيء، ما زال الفقراء يخرجون إلى الشارع في كل «جانفي» تقريباً. لكنهم لا يخرجون نهاراً، ولا يذهبون إلى الشوارع الرئيسة، ولا يحملون أعلاماً ولافتات. يتصادمون مع البوليس ليلاً في الشوارع الفرعية والبائسة. تحركاتهم هذه تُحرِجُ النخب وتُخيف الطبقات الوسطى وتُغضب البرجوازية وأعوانها في الحكم. يستمر الحراك بضعة أيام، ثم يهدأ تدريجاً بعد خذلان بقية الشعب لهم، بمساهمة من «شياطين» وسائل الإعلام.

«توبة» الطبقة الوسطى

هذه الطبقة، هي ابنةٌ شرعيةٌ للنظام التونسي الذي تشكّل بعد الاستقلال، وهي أيضاً ركيزته الأساسية، وظلّت تمدّه بالشرعية طيلة عقود. عندما أحسّت أنّه بدأ بالتخلي عنها شيئاً فشيئاً منذ أواخر التسعينيات، وقصّر في رعايتها، تململت، بل «تهوّرت» وساندت المطالبين بسقوطه في «جانفي 2011»، إما بالنزول إلى الشارع، أو بالتواطؤ الصامت.
لم تكن الطبقة الوسطى معنية كثيراً بمسألة الحريات؛ مشكلتها الكبرى كانت في تعطّل «المصعد الاجتماعي»، وخوف الاقتراب من «قاع المجتمع». هي طبقةٌ أحسّت بحكم تفاقم الأزمة الاقتصادية بعد الثورة، والمشاكل الأمنية المتتابعة، أنّها ارتكبت حماقة، وأنّ النظام القديم كان يضمن لها «الأمن»، على الأقل، ويمنحها وهم الخلاص الفردي عبر القروض، وغيرها من أدوات التخدير. سرعان ما اقترنت المظاهرات في ذهنها، بالفوضى والخراب، فأصبحت تتحسس منها، بل وتعاديها. أيضاً هنا، تقف غالبية وسائل الإعلام لتُجنِّد جيشاً من «الخبراء الاقتصاديين» و«المحللين السياسيين» بهدف شيطنة أي تحرك اجتماعي وتصويره كخطوة أخرى نحو الهاوية.

غضب ولكن...

انطلاقاً من واجب الأمانة إلى الواقع، وإلى وقائعه، لا تبدو الحكومة مقصّرةً لناحية أنّها توفّر كل ما يلزم لاندلاع ثورة، وليس لمجرد خروج مظاهرات. الكرة الآن في ملعب المعنيين بالأمر من «نخب» و«مواطنين عاديين». ولكن ثمة «شيء» غير متوفر حالياً لكي ينضج الغضب... ربما، يحتاج ذلك إلى الوقت.
«بانتظار غودو» الذي لا بدّ أن يأتي هذه المرّة (مُعاكِساً تاريخه المسرحي)، يبقى الشارع التونسي أمام مفارقة كُبرى: ثمة ألف سبب لتعود إليه الحياة، ولكن تُقابلها «حسابات غامضة» تجعله يركن إلى السكون... لعلّ الوقت وحده، سيكون كفيلاً بإزاحة لعنة تلك «الحسابات».