بشغفٍ، ينظر إلى «أطفاله»، يتمايلون على وقع موسيقى هادئة. مع كلّ «ميلةٍ» لهم، يبتسم. يصفّق. علقت عيناه على المسرح، هناك، حيث يؤدي الصغار في مركز «إعداد» لذوي الاحتياجات الخاصة رقصتهم باتقان، مع تلامذة مدرسة «كارمل ـــ سان جوزف». لا حاجة لموسى شرف الدين، رئيس «إعداد» ووالد شابين من ذوي الإحتياجات الخاصة أيضاً، للقول إن فرحته «لا توصف»، فهو يعرف أنه في كل مرّة يقف فيها متفرّجاً على ما يبذله هؤلاء الأطفال يختبر «شيئاً لا طاقة لي على ترجمته».
قبل أن يصل إلى هنا، مرّ شرف الدين بخيباتٍ كثيرة، بدأت في العشرينيات من عمره. يومذاك، كان يدرس في قسم التخدير في كلية الطب في الجامعة الأميركية لبيروت وينتظر طفله الأول. كان انتظاراً «يُعدّ على الأصابع» لشابٍ يختبر الأبوة للمرة الأولى. وُلد الطفل بإعاقة عقلية، فكانت بداية الخيبة، «والتجربة الأصعب مع طفلٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة». بعد ذلك بعامين، وُلد طفله الثاني بالمشكلة نفسها. عندها، ترك شرف الدين تخصّصه الجامعي، باحثاً عن اختصاص آخر يساعده في التعامل مع أطفاله.
منذ البداية، حاول البحث عن أفضل الوسائل التي تساعده في تدريب ولديه وتأهيلهما. وضعهما في مدرسة متخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، وانتسب إلى جمعية أصدقاء المعوقين كمتطوّع، قبل أن يصبح رئيساً لها. أكسبه ذلك «العمل» بعضاً من الخبرة التي «وظّفتها» لاحقاً في مركز التأهيل الذي أسّسه لمساعدة الأطفال. غير أنه اصطدم بقصّة التمويل. بحث كثيراً بلا جدوى، إلى أن قاده الطريق إلى رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري.
يومها، اقترح عليه الحريري التخصص في مجال تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة في إحدى أبرز الجامعات الأميركية. قبل الاقتراح، وعاد بعد سنوات «دكتوراً» متحمّساً ــــ رغم الحرب التي كانت تدور في لبنان ــــ لتطوير حال ذوي الإحتياجات الخاصة، وفي باله ولداه. بدأ عمله من خلال الجمعية، ليؤسس بعدها مراكز متخصصة في مناطق لبنانية مختلفة. لكن، كانت للحرب حسابات أخرى في مسيرته، فما بناه لسنوات، جرفته الأخيرة. مع ذلك، عاد شرف الدين ليؤسس من جديد ما «دمرته إسرائيل والميليشات اللبنانية أيضاً». وهو اليوم، يشغل مناصب عدة، بينها عضوية التحالف الدولي لأرضيات الحماية الإجتماعية، ورئاسة الإتحاد اللبناني لجمعيات الأشخاص المعوقين، ورئاسة الإتحاد الوطني للإعاقة العقلية، إضافة إلى عضويته لمدى الحياة في منظمة الإحتواء الشامل.
كل الحماسة التي يبديها شرف الدين «تسقط» دفعة واحدة أمام تعاطي المجتمع مع ذوي الإحتياجات الخاصة «فأقل كلمة قد يقولونها لهؤلاء هي معاق أو معوّق»، يقول. يعرف أن الوضع لن يتغيّر بسهولة، ويتطلّب «خطوة أولى»، هي الوعي. لكن، متى تأتي هذه الخطوة؟ «عندما نضع أنفسنا في مكان من وُلد بإعاقة. عندما نرى بعين الأعمى ونسمع بأذن الأصم، وندرك القدرات التي حرموا منها للعمل على إخراج أفضل ما يملكون».
يرفض شرف الدين التسميات التي تطلق حالياً على ذوي الإحتياجات الخاصّة، بينها «هذه التسمية بالذات: ذوي الإحتياجات الخاصة، فهي لا تعبّر بما يكفي عن هؤلاء، فاحتياجاتهم ليست ترفاً، بل هي في صلب حياتهم كالهواء والغذاء». يرفض كل تنميطٍ لهؤلاء، وخصوصاً «تفكير البعض بأنهم أشخاص يحتاجون من يقوم عنهم بالمهام، فيما الحقيقة أنهم يحتاجون فقط من يمكّنهم».
يأسف الرجل بأن أحداً «لم يسلك الطريق الصحيح بعد، فما زال الكثيرون يتعاملون مع ذوي الاحتياجات الخاصة على أنهم في مجتمع منعزل ولهم مؤسسات خاصة، بينما الطريق الذي يصل إلى الغاية المطلوبة هو دمجهم في المجتمع من خلال آليات تتعاون فيها كافة الوزارات والمؤسسات الرسمية». وهو ما لا يحدث، فبالنسبة له، «ما زالت الدولة اللبنانية تقف متفرجة على واقع ذوي الإعاقة في لبنان». وليس أدلّ على ذلك من القانون 2000/210 الذي يتضمن 101 مادة، والذي لم يتطرق إلى الدمج كسبيل. بتعبير أبسط، لا زالت الدولة تتكتل ــــ في ما يفترض أنه من مسؤولياتها ــــ على «المدارس المتخصصة العالية التكلفة، برغم أن أفقر دول العالم دخلت طريق الدمج». لا يتطلب هذا الأمر تكلفة مستحيلة، بل «العمل على وضع سياسات دامجة، قوامها التدخل المبكر وتأهيل الكوادر والبنى التحتية في المدارس العامة، إضافة إلى تعزيز الوعي العام لدى الناس بحقهم وبحقوق هؤلاء».
35 عاماً قضاها شرف الدين في هذا المجال، ولا يزال يظنّ «أنها البداية»، طالما أن المجتمع ينظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة كمعاقين. كمن سقطوا على «الأسوياء» من كوكبٍ آخر.