أحدث ازدياد الحركات الاجتماعية في الجزائر منذ بداية العام، ردود فعل متناقضة لدى الجزائريين، تراوحت بين دعم المطالب المشروعة وبين تنامي الحذر حيال محاولات التوظيف السياسي.ومنذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2017، يُنفِّذ المدرسون المنتسبون إلى «المجلس الوطني المستقل لمستخدَمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية ــ كنابست» و«الأطباء المُقيمون» (أي الذين يزاولون الطب في مرحلة التخصص)، إضراباً شلّ قطاعين حساسين داخل الإدارة العامة الجزائرية.

وفي 24 كانون الثاني/يناير، حكمت محكمة جزائرية بعدم شرعية الإضراب وأمرت «بإخلاء المباني المحتلة» من قبل الأطباء المضربين، الذين يطالبون بشكل أساسي بإلغاء الطابع الإلزامي لـ«الخدمة المدنية» الذي يفرض على الأطباء العمل في المناطق النائية في مقابل تكفّل الدولة بتعليمهم بشكل كامل.
في البدء، كان القصد من هذا الالتزام القانوني بالخدمة ضمن مؤسسة عامة تحددها وزارة الصحة عند انتهاء المسار التعليمي، هو تخفيف النقص في عدد الأطباء في المناطق الريفية والجهوية وضمان المساواة في الحصول على الرعاية الصحية المتخصصة. إلا أنّ هذا القانون يواجه اعتراضات تتعلق بظروف العمل القاسية وضعف نوعية الخدمات المقدمة بسبب قدم المعدات ونقص الموارد المادية والمالية.
أما إضراب المعلمين المنتسبين إلى «المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية»، فمطالبه مماثلة لجهة تحسين ظروف العمل، ولعلّ أبرزها، القيام بإصلاحات تتعلق بالرواتب التقاعدية وتقديم منح وامتيازات للمناطق. إلا أنّه اصطدم بتعنّت وزيرة التربية والتعليم نورية بن غبريت، التي فصلت حتى الآن أكثر من 500 مدرس متسلحةً بقرار المحكمة، وتستكمل حربها الأيديولوجية من خلال نقابة يُهيمِنُ عليها الإسلاميون (علماً أنّ الإسلاميين هم خصومها). وعلى الرغم من أنّ دينامية هذه الحركات الاحتجاجية لا تزال صعبة الفهم في الوقت الراهن، إلا أنّها تحمل على ما يبدو مطالب شرعية ومبررة. ومع ذلك، فإنّ اختيار الشعارات التي تحمل معاني سياسية معينة والانتماء السياسي لكوادر حركة «الأطباء المقيمين» أديا إلى حالة من الإرباك في صفوف المتضامنين مع الاحتجاج.
وقد لاحظ بعض المراقبين أنّ الرمز الذي استخدمه المضربون للتعبير عن حركتهم الاحتجاجية هو شعار «الحركة الصربية (أيام الحرب اليوغوسلافية) ــ أوتبور»، أي القبضة التي ترمز إلى المقاومة، والذي كانت قد أحيته الحركات الاحتجاجية العربية عام 2011 للمطالبة بسقوط الأنظمة. ويعتبر البعض أيضاً أنّ قياديي الاحتجاجات ينتمون إلى حركات تضم مجموعات برجوازية مدينية، مثل حركة «بركات» (كفى) التي ظهرت عام 2014 في سياق الانتخابات الرئاسية والتي تَصدَّر قادتها التعبئة ضد النظام الجزائري منذ عام 2011. وقد أظهر فشل هذه الحركة حجم انعدام ثقة الجزائريين بهذه النخبة التي نصّبت نفسها بنفسها وتتحدث باسمهم.
في هذا الصدد، يُخشى أن تُستخدم المطالب النقابية الحالية في خدمة طموحات سياسية لحركات لا تملك قاعدة اجتماعية حقيقية كحركة «بركات». كما يبدو من الصعب على الحركة أن تلوذ بنفسها عن خطر استخدام مطالب نقابية مُحقّة، فتقدم انطباعاً خاطئاً يقود نحو القيام بإصلاح ليبرالي داخل قطاع يُنظر إليه على أنه غير ربحي وتُمثِّلُ تكاليف تشغيله جزءاً مهماً من الإنفاق العام.
الأهمية التي تكتسبها هذه الحركات الاجتماعية في الجزائر، ليست في نهاية المطاف سوى مظهر من مظاهر المأزق الهيكلي الذي يُعاني منه المجتمع الجزائري اليوم بسبب الفراغ الأيديولوجي للطبقة السياسية برمتها. ولعلّ تراجع الأيديولوجيات اليسارية والعربية بسبب تخلي الحركات العلمانية عنها واكتفاء هذه الأخيرة ببرنامج وحيد يدعو إلى «تحرير» السلطة (دون تقديم بديل ملموس أو موثوق به)، وانحراف الإسلاميين الجزائريين الذين ومن خلال حركة سياسية جماهيرية (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) تحوّلوا إلى سياسة «المحافظة المجتمعية» الخالية من محتوى أيديولوجي حقيقي (مع تقارب مع التوجه الليبرالي)، كلّها عوامل تشير إلى متانة النظام الذي يحاول الآن الإعداد لخلافة دون عقبات. كما يؤدي هذا الفراغ الصعب داخل المجتمع إلى نشوء احتجاجات وتفشي العنف المتقطع.
قد يبدو المستقبل مظلماً من دون ظهور حركة نابعة من المجتمع، قادرة على توجيه الإحباط من خلال برنامج ونموذج يقتربان من الجزائريين كما هم بواقعهم الاجتماعي والتاريخي والدين