لدينا مثل جاهلي يقول: «أتلى من الشعرى». و«الشعرى» نجم سماوي يدعى باسم طويل (الشعرى العبور اليمانية). وموقعه جنوبي برج الجوزاء. وقد ورد ذكر الشعرى في القرآن. ذلك أن جماعة من العرب كانت تعبدها في الجاهلية وتسميها «رب الأرباب». لذا رد القرآن على هذا الادعاء بالقول: «وأنه هو ربّ الشعرى» (سورة النجم 49). فالشعرى مربوب وليست ربّاً. ويفسر الميداني المثل على الشكل التالي: «أتلى من الشعرى: يعنون الشعرى العبور، وهي اليمانية. فهي تكون في طلوعها تلو الجوزاء [بعد الجوزاء ووراءها]، ويسمونها: كلب الجبار. والجبار اسم للجوزاء، جعلوا الشعرى ككلب لها يتبع صاحبه» (الميداني، مجمع الأمثال).
وهكذا، فالشعرى تتلو برج الجوزاء، أي الجبار، في الطلوع، وتتبعه كأنها كلبه، لذا قيل فيه المثل: «أتلى من الشعرى».
وهذا التفسير خاطئ في اعتقادي. والأسطورة العربية، التي كان يعرفها الميداني جيداً، توضح ببساطة أصل هذا المثل ومعناه. فالعرب «تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا [كان شمالياً، فانحدر وصار جنوبياً]، فاتبعته الشعرى العبور، فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء» (القرطبي، تفسير القرطبي). وهكذا، فقد عبرت الشعرى اليمانية نهر المجرة، أي قطعته، لاحقة بزوجها وأخيها سهيل اليماني، كما يضيف لنا الآبي: «وأن العبور عبرت المجرة إلى سهيل، وتسمى اليمانية» (الآبي، نثر الدر). لقد سميت بالعبور لأنها عبرت وراء سهيل زوجها وحبيبها. كما وصفت بالتلو، أي باللحوق، لأنها لحقت هذا الزوج على هناك.

عليه، فالأسطورة تتحدث عن زمن ميثولوجي كانت فيه الشعرى العبور عند أختها الشعرى الغميصاء- أو الشامية كما تسمى أيضاً- على الضفة الشرقية لنهر المجرة، لكنها في لحظة ما تركت هذا الموقع، وتبعت زوجها إلى الضفة الغربية للنهر ذاته، مخلفة أختها الغميصاء في مكانها. والمثل «أتلى من الشعرى»، يشير إلى تلك الحادثة الميثولوجية بالذات، أي يشير إلى لحاق الحبيبة بالحبيب كي تلتقيه. وحين يلتقيان هناك، يحل الصيف الفيضي. أي يحل فيضان النيل والأنهار الشبيهة. ذلك أن الشعرى العبور هي إيزيس المصرية، اما الغميصاء، فهي نفتيس أخت إيزيس. أما في التوراة، فهما تدعيان راحيل وليئة. راحيل رحلت وراء زوجها. أما ليئة فلأت وتلبثت ولم ترحل مثل الغميصاء. لذا فاسمها آت من جذر «لأى»، أي تلبث ومكث. إنها التي بقيت هناك على الضفة الشرقية لنهر المجرة.
والحال أنّ باحثاً غربياً حديثاً هو غوستاف دالمان وصل بسهولة إلى فهم المثل، الذي فشل الميداني في فهمه رغم أنه يعرف الأسطورة جيداً، بل ينقلها في كتابه. يقول دالمان في كتابه: «العمل والعادات في فلسطين»: «وسبب تعبير «أتلى من الشعرى ارتب»... أن «الشعرى العبور» تركت أختها الشعرى الشامية، آسفة دامعة، لأنها أرادت أن تلحق بسهيل» (المجلد الأول، ج1، ص 502). عليه، فالشعرى تبعت سهيل حباً وارتباطاً، ولم تتبع برج الجوزاء كالكلب.
إذن، فموقع سهيل والشعرى كان في الأصل شمالياً. أي في شمال السماء. هكذا تقول الميثولوجيا. لكنهما انتقلا إلى الجنوب عند لحظة محددة. بذا يبدو أن جنوب السماء أحدث ميثولوجيا من شماله.
والحق أن الديانة الهندية تؤيد هذا الاستخلاص. أي تؤيد، أن جنوب السماء تقليد لشمالها بشكل ما. إذ يخبرنا البيروني أن الهنود كانوا يرون أن هناك سماوين؛ شمالية وجنوبية، وأن الجنوب صنع بعد الشمال:
«لم أسمع منهم في القطب الجنوبي إلا أن ملكاً كان لهم يسمى سومدت قد استحق الجنة بحسن أعماله، ولم يطب قلبه بنزع بَدَنِه عن نفسه عند انتقاله {إلى السماء}، فقصد بسشت الرش، وأعلمه أنه يحب بدنه، لا يريد مفارقته، فآيسه عن حمل البدن الأرضي من الدنيا إلى الجنة. وعرض أيضاً حاجته على أولاد بسشت فجبهوه ببزقهم، وسخروا به، وصيروه جندالا مشنف الأذنين بقرطق جديد {قباء جديد}. فجاء إلى بشفامتر الرش على تلك الحالة، فاستفظعها، وسأله عنها، فأخبره بها، وقص عليه القصة بأجمعها. فغضب [بشفامتر] امتعاضاً له، وأحضر البراهمة لعمل قربان كبير وأولاد بسشت فيهم، وقال لهم: إني أريد أن أعمل عالماً آخر وجنة أخرى بسب هذا الملك الصالح، يبلغ فيها مشتهاه. وابتدأ بعمل القطب وبنات نعش التي في الجنوب. وخافه أندر الرئيس والروحانيون، فجاءوا إليه متضرعين يسألونه إهمال ما ابتدأ فيه، على أن يحملوا سومدت ببدنه كما هو إلى الجنة.

الشعرى العبور هي إيزيس المصرية، أما الغميصاء، فهي
نفتيس أخت إيزيس

وفعلوا ذلك، فترك عمل العالم الثاني، إلا ما كان عمل منه إلى وقتئذ. ومعلوم أن القطب الشمالي يوسم عندنا ببنات نعش والجنوبي بسهيل، إلا أن في بعض من يشبه العوام من أصحابنا من يزعم أن في ناحية الجنوب من السماء بنات نعش على هيئة الشمالي تدور حول ذلك القطب» (البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة).
وإذا استثنينا الأسماء غير المألوفة لنا، فالقصة بسيطة واضحة: الملك سومدت يموت بشكل ما، ويريد أن صحب جسد معه إلى السماء، إلى الجنة. لكنه يمنع من ذلك. فيذهب شاكياً إلى بشفامتر، الذي يقرر، غاضباً على ما فعلوه بسومدت أن يصنع عالماً آخر يكون ممكناً أن تلتقي فيه الروح بالجسد في السماء. وقد بدأ في صنع هذا العالم الموازي في جنوب السماء: «وابتدأ بعمل القطب وبنات نعش التي في الجنوب». لكنه أوقف عمله بعد التدخلات. بذا فجنوب السماء كون آخر مشابه لشمال السماء، لكنه ليس كوناً كاملاً. بالتالي، ففيه نجم قطب شبيه بنجم قطب شمال السماء، كما أن فيه «بنات نعش» مثل «بنات نعش»
الشمالية.
أما نجم القطب الجنوبي، فهو سهيل اليماني عند العرب (كنوبوس عند الغرب). إذ الفلك يدور: «على قطبين ثابتين: أحدهما مما يلي الشمال وهو قطب بنات نَعْش، والآخر مما يلي الجنوب وهو قطب سُهَيْل، وليس البروج غير الفلكَ» (المسعودي، مروج الذهب). ولا يقول لنا نص البيروني أين هي «بنات نعش» الجنوبية. لكننا نستطيع التكهن بها بسهولة. إنها نجوم حزام الجوزاء (حزام أوريون)، والمربع الذي يحويها. بذا فلدينا سبع نجوم ثلاث تشكل الجوزاء: (النطاق، المنطقة، الجوزاء)، إضافة إلى أربع تشكل مربعاً هي: المرزم وإبط الجوزاء، والرجل والسيف. أما بنات نعش الكبرى في شمال السماء، فتتكون من مربع هو «النعش» ومن ثلاث نجوم هن ذيل بنان نعش (الحور، عناق، القايد). والفارق بين بنات نعش الشمال والجنوب أن البنات، أي النجوم الثلاث تقع داخل المربع. أما في الشمال فتقع خارج المربع.
في هذه المنطقة، أي في بنات نعش الجنوبية، يمكن للروح أن تصحب الجسد. بينما في الشمال يظل الجسد على الأرض، في القبور، وتصعد الروح إلى السماء وحدها. بالتالي، ففي الجنوب تبعث الأجساد والأرواح معاً حين يأتي وقت البعث. عليه، فالآلهة الجنوبية مثل سهيل اليماني، والشعرى العبور اليمانية، تظهر وتختفي، تموت وتنبعث. أما آلهة الشمال فثابتة لا تغيب. إنها خالدة، لكن خلود موت ما. بذا يمكن القول بشكل ما، أن بنات نعش الجنوب طراز من «مهد». أما بنات نعش الجنوب فهي طراز من «نعش».
هذا هو أصل أسطورة أن سهيل اليماني كان شمالياً، ثم انحدر فصار جنوبياً. لقد انقسم الكون- الإله إلى قسمين: القسم الشمالي هو «السها»، والقسم الجنوبي «سهيل».
على كل حال، فنص البيروني أعلاه هذا نص وتأسيسي، وبإمكانه أن يلقي ضوءاً على اديان المنطقة العربية، وعلى الأخص الديانة المصرية القديمة.
* شاعر فلسطيني