أن تشكل المرأة الريفية 6% فقط من اليد العاملة النسائية في الزراعة في لبنان، رقم يدعو إلى القلق الشديد على الأمن الغذائي! هذا الرقم أعلنت عنه أمس الدكتورة الباحثة بتول يحفوفي من دراستها، أثناء انعقاد المشاورات الإقليمية للمجتمع المدني مع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وبالتعاون مع جمعية "غايا" في لبنان. هذا الرقم المتدني للعاملات في القطاع الزراعي في لبنان بالمقارنة مع 48% في تونس وأكثر من 60% في مصر، على سبيل المثال، يدعو إلى القلق والتأمل والدراسة.

تردّ يحفوفي السبب الرئيسي للتراجع الدراماتيكي في عدد النساء العاملات في الزراعة في لبنان، إلى أسباب متعددة، من أهمها، كونه عملاً مضنياً، وأن النساء لا توجه الفتيات إلى الزراعة بل الهجرة الداخلية إلى المدينة، للبحث عن فرص عمل أخرى، بالإضافة الى ضعف المردود الاقتصادي للعمل الزراعي أو انعدامه وعدم تسويق الإنتاج، لا سيما إذا كنّ لا يملكن الأرض للزراعة. وإذا ربطنا هذا الرقم بتمركز السكان في المدن بنسب تتجاوز الـ80%، وهو رقم، بالمناسبة أيضاً، يتجاوز المعدلات العالمية (بين 50 و70%)، وبمعطى آخر يتعلق بزيادة ساعات العمل عند المرأة الريفية بما يتجاوز الـ14 ساعة وعدم وجود ضمان صحي للمزارعين ولا شبكة نقل عام للأرياف... تكتمل الصورة السوداء التي تنتظرنا. لا حاجة للحديث عن غياب الدولة وسياساتها الزراعية إذا نظرنا إلى موازنات وزارة الزراعة (بالمقارنة مع موازنات وزارات الخدمات)، وأن لا دعم في الزراعة وصغار العاملين فيها، إلا في زراعة التبغ غير الغذائية! بالإضافة إلى غلبة التجار على سياسات الحكومة الحمائية وعدم اعتماد سياسات تسويقية، لا سيما لإنتاج صغار المزارعين، بالإضافة إلى غياب الخطط والبرامج المتكاملة...إلخ.
إلا أن المسببات الأكبر والمسكوت عنها في الدراسات عامة، لا سيما حول مواضيع التنيمة الريفية وتفريغ الريف من أهله والضغط على المدن، وتدمير الأرياف بالمشاريع التجارية الكبرى، وزيادة تلوث المدن… بالإضافة إلى زيادة الفقر والمرض... أن سياسات الإنماء تاريخياً كانت تقوم على قواعد خاطئة، كمثل اعتماد مبدأ "الإنماء المتوازن" (الذي يقوم على بنية طائفية ومذهبية ولا يخدم أهداف التنمية الحقيقية)، بدل مبدأ "الإنماء المتكامل"، الذي يخدم نظرة أشمل وأصدق إلى متطلبات التنمية الحقيقية. بالإضافة إلى تراجع موازنات وزارة الزراعة بالنسبة إلى الوزارات "الأمنية"، على سبيل المثال. فمجرد مراجعة الجدول رقم واحد لمشروع قانون موازنة عام 2018 التي تناقش حالياً، على سبيل المثال، فإن موازنة وزارة الزراعة (111 مليار ليرة لبنانية تقريباً) تشكل 0,4 % من الموازنة العامة، في حين تبلغ موازنة الدفاع 12,6% والداخلية 7,1% من الموازنة العامة!
فإذا كانت موازنات الوزارات الأمنية (تاريخياً) تشكّل أكثر من ثلث الموازنة تقريباً (إذا أضفنا إليها الموازنات الأمنية للرئاسات والصناديق السوداء)، في حين لا تصل موازنة وزارة الزراعة مع البيئة إلى النصف في المئة من الموازنة العامة... فهل نستغرب لماذا يترك الشباب قراهم والزراعة، وما الذي يهدّد أمننا الغذائي والصحي والبيئي؟
فلمن تركنا زراعاتنا المحليّة؟ للتجار الذين لا يهمهم غير الربح، وقد استغلوا التربة والمياه إلى حد الاستنزاف؟ أم لتجار المبيدات والمخصبات الكيميائية التي لوثت التربة والمياه والغذاء وتسببت بأمراض خطيرة لا تحصى ولا تعد؟ أم نتركها لتجار المعلبات والمأكولات الجاهزة التي لا تخلو من مواد حافظة وقاتلة؟
وهل دور وزارة الزراعة الإرشاد الحقيقي ودعم الاقتصاد الريفي والزراعات الصغيرة أم حماية تجار الغذاء والدواء، كالمبيدات والمخصبات الكيميائية المستوردة… وغدا البذور المعدلة جينياً؟
ثم أما حان الوقت لنبدأ بالسؤال، متى تحولنا من منتجين إلى مستهلكين لكل شيء؟ وما الثمن الذي ندفعه في هذا التحول؟
ألا يفترض أن نراجع مفاهيم دمرتنا وباتت تكلفنا حياتنا مثل التنمية والرفاهية، بدل فلسفة الكفاية التي عرفها أجدادنا؟
ألا يفترض أن نعيد النظر بالنموذج الحضاري الذي تبنيناه حين تعلمنا، أثناء فترة الاستعمار، أن علينا أن نقفل فمنا أثناء تناول الطعام لكي نكون حضاريين، وقد تأخرنا كثيراً لنكتشف (أو لنتذكر)، أن الحضارة هي عندما نصل إلى مرحلة لا نقتل حتى نأكل… أكثر من شبعنا، كما فعل الغرب لكي يصبح متقدماً علينا؟!

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]