حتى مساء يوم أمس، تلقت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، ترشح «595 قائمة حزبية» للانتخابات البلدية المقرر إجراؤها في السادس من أيار/مايو المقبل، في ظلّ صعوبات تواجهها بعض الأحزاب والتحالفات السياسية في إيجاد مرشحين نظراً إلى كثرة الدوائر الانتخابية البلدية وإلى «الشروط المُجحِفة» التي يتضمنها القانون الانتخابي (الأخبار العدد ٣٣٩٣).
رغم النسق التصاعدي لتقديم الترشحات للاستحقاق البلدي، يُظهر حزب «النهضة» جهوزيةً واستعداداً كبيرين لخوض هذه الانتخابات، إذ يتوقع لهم المراقبون تقدّماً على حساب خصومهم الذين يتشتت شملهم منذ الانتخابات البرلمانية والرئاسية الماضية، أي منذ تآلف «نداء تونس» و«النهضة» في توافق سياسي يحكم البلاد منذ مطلع 2015.
مؤشرات النجاح المتوقع لـ«النهضة» ولمن يدور في أفقها، لا تنحصر فقط في استعداد قاعدتهم الانتخابية أو انتشارهم الميداني في مختلف المناطق، ولا حتى الانضباط الحزبي الذي تتميّز به الحركة، وإنّما يتجاوز ذلك باتجاه الأخذ بالاعتبار النظرة المغايرة التي يعتمدها «النهضة» في التعامل مع الشأن السياسي في البلاد منذ خروجها من الحكم مطلع 2014 وخسارتها لمركزها الأول في الانتخابات التي فاز فيها شريكها الحالي في الحكم «نداء تونس». جدير بالذكر على هذا الصعيد، أنّها كانت الحزب الأول في تونس الذي بدأ استعداداته للانتخابات البلدية قبل نحو سنة من الآن، في الوقت الذي كانت فيه القوى «اليسارية» أو تلك الموصوفة تجاوزاً بـ«العلمانية»، تستنزف جهودها في معارك أخرى تتعلق بقانون المصالحة مع أطياف النظام القديم، أو بالاحتجاجات الاجتماعية، وذلك إضافة إلى عدم نجاح بعض القوى التي تُعرِّف نفسها بأنّها «مناهضة للإسلاميين» على توحيد صفوفها بسبب الخلافات والصراعات في ما بينها.

بدأت الحركة استعداداتها للاستحقاق البلدي
قبل نحو سنة من الآن

أيضاً، بادرت «النهضة» إلى فتح قوائمها الانتخابية للمستقلين بنسبة 50 في المئة في إطار «سياسة انفتاح على المجتمع»، التي يريدون من خلالها استقطاب فئات من خارج قاعدتهم الانتخابية التقليدية. وهذا مع العلم أنّ القوائم التي قُدِّمَت إلى حد الآن ترأس غالبيتها شخصيات من خارج «الحركة» ونساء لا يتقيّدن بالزيّ الإسلامي، كما تضمنت القائمة في محافظة المنستير الساحلية، تونسياً يهودياً في سابقة قد تكون مثيرة للجدل ولم تُقدم عليها أي من القوى العريقة. (يوم أمس، قال عضو المكتب السياسي في النهضة عماد الخميري: «إنّ ترشيح تونسي يهودي أمر عادي في حركة النهضة المنفتحة على كلّ التونسيين والداعمة لأسس التعايش والمواطنة»).
طبعاً، لسنا هنا بصدد تعداد مناقب «النهضة» أو الإشادة بحنكتها في التعامل مع الواقع التونسي، بقدر ما هو محاولة لاستشراف الواقع التونسي في ضوء استعدادات الأحزاب، خاصة أنّ الانتخابات البلدية المقبلة ستكون بمثابة الامتحان الأوّلي الذي سيُمهِّد الطريق أمام الفائز ليظفر بالانتخابات العامة المقررة في نهاية 2019.

ولّى زمن «الاستقطاب»؟

في مقابل «النهضة»، برغم تكتل أحزاب في ائتلافات انتخابية، إلا أنّها لم تتمكن بعد من تشكيل قوائم في جميع الدوائر الانتخابية. وإلى حد الآن، متوقع أن يُشارك «الاتحاد المدني» (تحالف 11 حزباً «علمانياً» وليبرالياً، ومحسن مرزوق هو أبرز وجوهه)، بستين قائمة من إجمالي 360 قائمة. ومن جهتها، لا تزال «الجبهة الشعبية» (تحالف قوى اليسار والقوميين) في مواجهة امتحان صعب، هو تقديم مرشحين في جميع الدوائر الانتخابية. (علماً أنّ القيادي فيها الجيلاني الهمامي، أعلن في مقابلة مع «الأخبار» يوم الخميس الماضي أنّ «الهدف حالياً هو في الدخول بقوائم باسم الجبهة في أكثر من 150 دائرة انتخابية، فيما سندعم في بعض الدوائر الأخرى قوائم تضم مناضلينا ومستقلين، لكنها لن تكون باسم الجبهة»).
أما «نداء تونس» الحاكم (حزب الرئيس الباجي قائد السبسي)، فلم يحسم بعد قوائم مرشحيه للدوائر البلدية، وذلك برغم أنه يتجه نحو استقطاب شخصيات بارزة محلياً ورجال أعمال على غرار ما جرى في الانتخابات البرلمانية الماضية. ولكنه يُواجه صعوبات في تجميع شتات قاعدته الانتخابية التي «تفرّقت بين القبائل» بعد تحالفه مع «النهضة» وتصدّعه، وليس أمامه اليوم سوى التنافس مع تلك الموصوفة تجاوزاً بـ«الأحزاب العلمانية» بغية استقطاب نفس الناخبين المحتملين. وهذا ما يجعلنا أمام «فرضية تشتت أصوات» شبيهة بما حصل في انتخابات الجمعية التأسيسية في 2011 التي اكتسحتها «النهضة» ومن معها.
وفي مواجهة تقدّم محتمل لـ«النهضة»، تحاول بعض القوى استعادة خطاب «الانقسام العلماني ــ الإسلامي» الذي سيطر على الخطاب الانتخابي في 2014، واعتماد أسلوب «تخويف من الإسلاميين الذين يريدون أسلمة المجتمع والتراجع عن مكاسب الحداثة في تونس»، ولكنّ تجربة الناخب مع الأحزاب التي استعملت هذا الخطاب ثم تحالفت «مع الإسلاميين» لن تجعل هذا الأسلوب ناجعاً مثلما سبق. وقد يكون من مصلحة الناخب وجود توازن سياسي في المجالس البلدية عوض الانقسام الذي من شأنه أن يُعطّل العمل البلدي ويُهمّش مطالب المواطنين المباشرة بما يُفقِد الاستحقاق قيمته من حيث أنه يُقدّم «خدمة» مباشرة للمواطنين في مجالات البيئة والبنية التحتية والاستثمار.
جدير بالذكر أنّ عدّة أحزاب، سبق أن وجهت سهام نقدها نحو القانون الانتخابي الذي زاد في صعوبة تشكيل القوائم، خاصة أنه يفرض أن تكون القائمة المترشحة متناصفة بين المرأة والرجل (عمودياً وافقياً)، وتضمّ أشخاصاً من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو ما يُنظر إليه كشروط «تعجيزية» لن تتمكن من تلبيتها سوى الأحزاب الكبرى، وعلى رأسها «النهضة». وبرغم أنّ هذه الأحزاب نفسها تتحمّل مسؤولية ما إذ كان من المفترض رفع الصوت قبل الوقت الحالي بكثير، فإنّ الباحثة هالة اليوسفي، كانت قد أبدت في حديث إلى «الأخبار»، الخشيةَ من أن نشهد انتخابات بين الأحزاب الكبيرة (النهضة والنداء)، على حساب التشكيلات الصغيرة أو القوائم المستقلة.
من جهة أخرى، يُرجِع القيادي في «النهضة» عبد الحميد الجلاصي، في حديث إلى «الأخبار»، هذا الواقع إلى «هشاشة المشهد الحزبي وضعفه وتعقيدات القانون الانتخابي»، ما يجعل «أكثر الأطراف حضوراً هي نداء تونس والنهضة، (مضيفاً إليهم) المستقلين». وبينما يشدّد أنّ «القانون الانتخابي صيغ بطريقة لا تسمح لأي طرف بالتغول»، فإنّه يُرجّح «أن تكون المجالس المنتخبة متنوعة من حيث التركيبة وفيها أقدار من التوازن على الأقل بين الحزبين الكبيرين».
الجلاصي يرى أنّ هذه «الانتخابات أقرب للفخ منها للفرصة (لأنّ) المجالس المنتخبة (ستواجه)، على الأقل في البداية، معضلات نقص الموارد واستمرار الثقافة القديمة وبطء الإجراءات». لكن لعلّ كل ما سبق ذكره، يُعطي صورة تقريبية عن استعدادات القوى السياسية للاستحقاق البلدي الأوّل من نوعه من «ثورة جانفي» 2011، وعن استعداد «النهضة»، بالأخص، لفوز «منطقي» فيها، سيكون بمثابة الباب الذي ستعود منه الحركة إلى سدّة الحكم برغم أنها لم تغادره إلا «خشيةً وخفراً» منذ استقالة حكومتها بداية 2014 إثر اغتيالات سياسية كادت تُدخل البلاد في أتون صراعات أكبر من الجميع.




«تجارب تركيا والمغرب حاضرة في مقاربة الحركة»



في حديث إلى «الأخبار»، يجيب الباحث التونسي حمزة المؤدب، عن أسئلتنا، بالإشارة بداية إلى أنّ «النهضة دفعت بشدة نحو تنظيم الانتخابات البلدية برغم مماطلة حلفائها وتأخيرهم للانتخابات في عدة مناسبات». وبينما يلفت في سياق الإجابة إلى أنّ «الانتخابات البلدية تندرج في إطار تأمين المسار الديموقراطي الذي يُمثّل السبيل الوحيد لتأمين دمج النهضة في النظام السياسي وفي هياكل الدولة»، فإنّه كان قد استبق ذلك شارحاً بأنّه «واضح جداً أنّ الاستحقاق يكتسي أهمية كبرى للنهضة لاعتبارين أساسيين».
«الأول» هو أنّها «محطة مهمة تحضيراً للمواعيد الانتخابية الوطنية في 2019، بمعنى أنّ إضافة شرعية جديدة من خلال الانتخابات المحليّة مهم لناحية تفادي تصادم عنيف واستقطاب حاد قد يتبلور مع اقتراب الانتخابات التشريعية والرئاسية». ويضيف أنّ أهمية هذا الاستحقاق تكمن أيضاً في أنّه «من دونها، يكون الدخول إلى انتخابات عامة العام المقبل عملية خطرة بالنسبة إلى النهضة في ظلّ تصاعد الأصوات التي تنادي بتكوين قطب منافس لها، وفي ظلّ ضعف الهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات؛ يعني أنّ أيّ قدح في نتائج الانتخابات العامة السنة المقبلة سيضعف المسار الديموقراطي ويجعله عملياً وفعلياً على المحك في غياب أي مستوى وسيط من الشرعية»، في إشارة إلى المستويات المحلية.
أما «البعد الثاني»، فهو «مرتبط بحاجة النهضة إلى الإطباق على السلطة من الأسفل (كما تقول في السؤال)، بمعنى تأمين حضورها وتجذرها داخل المجتمع من طريق العمل البلدي والخدمات العمومية»، موكداً أنّ «تجارب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب حاضرة بشدة في مقاربة النهضة: العمل البلدي كمدخل لربط الحزب بقواعده ولاستقطاب فئات اجتماعية جديدة وتوسيع قاعدة الحزب. النجاح في العمل البلدي سيمثّل دليلاً أيضاً على تجاوز الانتقادات التي وجهت إليهم إبان فترة الترويكا، ولبناء شرعية سياسية مبنية على القدرة على الإنجاز وليس فقط على التاريخ النضالي إبان فترة الديكتاتورية». ويقول المؤدب: «تقديري أنّ الانتخابات البلدية ستكون فرصة لإعادة هيكلة الحزب أيضاً من طريق دمج مستقلين واستقطاب كفاءات والانفتاح على فئات اجتماعية جديدة من خارج القواعد التقليدية للحركة»، قبل أن يختتم: «طبعاً، إنّ ما تتناساه النهضة وغيرها من الأحزاب، أنّ القدرة على الإنجاز غير مرتبطة حصراً بالكفاءات الذاتية للأشخاص والتزامهم خدمة المواطنين، بل بضرورة إصلاح هياكل الدولة وبيروقراطيتها ومواءمتها مع مبدأ اللامركزية».