تونس | بدعم فرنسيّ وغربيّ، تسعى دول الساحل الأفريقيّ الخمس (موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) إلى «بناء قوّة عسكريّة لمقاومة الإرهاب». وأمام تعثّر جهودها، تبقى الصحراء الشاسعة الممتدة في هذه الدول أو عند حدودها، والعابرة بجنوب دول المغرب العربي وصولاً إلى تخوم السودان، فضاءً تتقاسم النفوذ فيه بشكل خاص القوات الفرنسيّة الضامنة لهيمنة بلادها في الإقليم، و«الجماعات الجهاديّة» التي صارت اليوم أكثر وحدة وقوّة من أي وقت سابق.
ممّا يعزز هذه الخلاصة أنّ الحروب «ضد التنظيمات الجهاديّة» في مالي، وفي ليبيا، كما في منطقة الساحل ككل، لم تنتهِ، ويبدو أن نهايتها أبعد من مرمى النظر. هذا ما تقوله التطورات، وهذا ما تقود إليه آخر المؤشرات. ففي العاصمة النيجريّة نيامي، انتهت الأسبوع الماضي القمة الرابعة لمجموعة دول الساحل الخمس على إخفاق جديد في حشد التمويلات اللازمة لتشكيل قوّة عسكريّة مشتركة بينها تتولى حمايتها «من الخطر الجهاديّ». وفي مقابل هذا الإخفاق، يستمر «الجهاديّون» في تدعيم قوتهم، إذ تتكثّف هجمات «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المغرب الإسلاميّ» منذ تشكيلها في الأول من آذار/مارس من العام الماضي.

عودة إلى استقلال أزواد

لم يهدأ شمال مالي منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960، حيث عصفت بإقليم أزواد ثلاث انتفاضات قادها الطوارق، المجموعة الاثنيّة الأغلبيّة، بمؤازرة من قبائل العرب والفولاني. مع استمرار الجور وتعطل الاتفاقات المتلاحقة مع الحكومة المركزيّة، لم تهدأ تطلعات أهل الشمال الانفصاليّة، وكادت انتفاضتهم الرابعة تبلغ مسعاها.
المحاولة الأخيرة انطلقت بتأسيس «الحركة الوطنيّة لتحرير أزواد» في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2010، أي على أعتاب الانتفاضات العربيّة. ومع بداية التحركات العسكريّة في ليبيا، انسحب مئات المقاتلين الطوارق (الذين حظوا سابقاً بترحيب معمر القذافي ورعايته)، باتجاه موطنهم الأم، حاملين معهم أسلحتهم وخبرتهم العسكريّة، وذكريات قضيّتهم المنسيّة. وبوصول العائدين إلى أزواد، تولى محمد أغ ناجم، وهو عقيد سابق في الجيش الليبيّ، قيادة أركان «جيش الحركة الوطنيّة لتحرير أزواد»، وبدأ التمرّد.

على عكس ما يُشاع، يزداد «القاعدة» ثباتاً هناك، فيما «الدولة» طرف ثانوي

مع مرور الوقت، اتسعت العمليات العسكريّة، ومع حدوث انقلاب في العاصمة باماكو، انهار الجيش الماليّ وسيطرت الحركة على المناطق الثلاث الرئيسّة في الإقليم (كيدال، غاو، وتومبكتو)، فيما أُعلِن الاستقلال في 9 نيسان/أفريل عام 2012. لكن لم يكُن «الوطنيّون العلمانيّون» وحدهم، إذ برز «الجهاديّون» أيضاً على الساحة، ممثلين بثلاث حركات أساسيّة: «أنصار الدين»، «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلاميّ»، و«حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا».
رغم تباعد تصورات الطرفين، إلا أنّ «الحركة الوطنيّة لتحرير أزواد» وقّعت اتفاقاً مع «حركة أنصار الدين» (الطرف الجهاديّ الأبرز في المنطقة حينها)، نصّ على اندماجهما وتأسيس «دولة إسلاميّة». لم يصمد التفاهم طويلاً، إذ رفضت «الحركة الوطنيّة» تغليب شروط «أنصار الدين»، ما أدى إلى دفعها نحو هوامش المدن الرئيسة.
وفي ظلّ استمرار الصراع وتفاقمه، فإنّ خريطة «الجماعات الجهادية» اليوم ثبتّها، في بداية آذار من العام الماضي، إعلان أربعة تنظيمات اندماجها وتأسيس «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المغرب الإسلاميّ»، وتعيين إياد أغ غالي «أميراً» عليها. ويحمل هذا الاندماج دلالات مهمّة، إذ تُمثّل الجماعات المتحدة الاثنيات الثلاث الرئيسة في شمال مالي: تتكون «حركة أنصار الدين» من الطوارق، وتتكون «كتائب تحرير ماسينا» من الفولاني، فيما يتكوّن «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلاميّ» وتنظيم «المرابطون» أساساً من العرب الماليّين وكذلك من الآتين من شمال أفريقيا. إلى جانب ذلك، يُمثّل الاندماج رسالة مفادها أنّ تنظيم «القاعدة»، وعلى عكس ما يُشاع، يزداد قوّة وثباتاً، وأنّ «داعش» الذي أعلن فرعاً له في المنطقة تحت اسم «الدولة الإسلاميّة في الصحراء الكبرى»، والذي يتزعمه عدنان أبو الوليد الصحراوي المنشق عن تنظيم «المرابطون»، ليس إلاّ طرفاً ثانويّاً.

«حرب هولاند»

في نهاية عام 2012، ومع تزايد الأنشطة الدعائيّة لـ«الجماعات الجهاديّة» وتنامي خطرها، دعا «مجلس الأمن والسلم الأفريقي» إلى حشد الدعم لقوات دول غرب أفريقيا، وتلى ذلك قرار من مجلس الأمن الدولي بإنشاء «البعثة الدوليّة بقيادة أفريقيّة لدعم مالي». لكن فشلت الاجتماعات التي حضرها عدد واسع من البلدان في جمع مبلغ 959 مليون دولار، اللازم لتأمين تدخل 8 آلاف جنديّ أفريقيّ، في وقت كانت فيه فرنسا لا تزال تلعب دور الداعم، من دون إبراز نيّة للتدخل المباشر. من جهة أخرى، يوضّح الضابط والمؤرخ الفرنسيّ ميشال غويا، في مقال تحليليّ بعنوان «حرب الأشهر الثلاثة»، أنّ «الجهاديّين لم يتوقعوا مشاركة فرنسيّة»، في وقت لم ترغب فيه أيّ من القوى الكبرى المشاركة أيضاً، خاصّة بعد النتائج المدمرة للتدخل العسكريّ الغربي في ليبيا، والذي كان مدعوماً خليجياً.
كانت فرنسا القوة الوحيدة القادرة على التدخل، ويعود ذلك أساساً إلى وجودها العسكريّ في البلدان المجاورة لمالي: ساحل العاج، الغابون، بوركينا فاسو، والتشاد. ويوضّح وثائقيّ «خليّة أزمة»، الذي عُرض على قنوات فرنسيّة، أنّ الاستخبارات العسكريّة الفرنسيّة «كانت تتابع تحركات الجهاديّين منذ بداية الأحداث، وقد قدّرت عددهم (حوالى 1500 مقاتل) وأماكن تمركزهم وقوّة عتادهم». مع ذلك، لم تحضر الإرادة السياسيّة للتدخل «إلاّ عند تقدير إمكانيّة توسّع الهجوم الجهاديّ جنوباً، وتهديد وجود السلطة المركزيّة»، ما يُمكن أن يمسّ بمصالح فرنسا في منطقة تعتبرها «مجالاً استراتيجيّاً»، ومكوّنة من مستعمراتها السابقة (تعتمد فرنسا مثلاً على اليورانيوم المستخرج من النيجر لإنتاج ثلث الطاقة التي تولدها مفاعلاتها النوويّة، إضافة إلى هيمنة شركاتها على القطاعات الاستخراجيّة الأخرى في مجمل المنطقة). وهكذا، أعلن هولاند، في 11 كانون الثاني/ جانفي، بطلب من السلطات الماليّة ومن دون موافقة من مجلس الأمن، بدء عمليّة «سرفال»، التي تمثّل العمليّة العسكريّة الأكبر لفرنسا ــ خارج التحالفات ــ منذ الثورة الجزائريّة. (انتهت العملية في تموز/جويلية من العام نفسه وعوّضتها العمليّة «برخان» المستمرة إلى الآن و«الساعية لمقاومة الخطر الجهاديّ على امتداد منطقة الساحل والصحراء» بوجود 12 ألف جندي فرنسي).
الحضور القوي لفرنسا راهناً، والمساعي التي يُطلقها حالياً الرئيس إيمانويل ماكرون، تقابلهما صورة قاتمة تُهيمن على «مجموعة دول الساحل الخمس»، إذ إنّها لم تنجح بعد أربع سنوات من التأسيس في إطلاق القوّة العسكريّة المشتركة بينها. يُقال إنّ العائق الأساسيّ أمام تشكيل القوة هو المسألة الماليّة (متوقع أن تُطرح مرة أخرى في إطار مؤتمر تمويل جديد تحتضنه بروكسل في 23 من هذا الشهر)، لكنّ عدداً من المراقبين يتساءلون اليوم عن مدى جديّة التحجّج بالعوائق الماليّة، خاصّة أنّ الحديث يدور عن جيوش خمسة بلدان «مدعومين فرنسياً» في مقابل «بضع مئات من المقاتلين الجهاديّين». ولعلّ الأخطر من ذلك أنّه في الأثناء، ظهر «الرأس الأميركي» الذي لم ينخرط في «حرب 2013»، من النيجر قبل ثلاثة أشهر، حيث قُتل له أربعة جنود من القوات الخاصة في طريق عودتهم من مهمة عسكريّة في شمال البلاد، في مشهد يُثبِت أنّ منطقة الساحل برمتها ستبقى، في ظل تراجع قدرات الدول المحلية، محاصرة بين «الطموحات الجهادية»، وتصورات «المشاريع الغربية»، ليشكّلوا جميعاً «حرّاس الخراب» لمساحة جغرافية لم يعرف سكانها إلا «العيش خارج الحياة»، كما تقول أقسى التعابير.




من العلمانيّة إلى «الجهاديّة»

كان زعيما «تنظيم القاعدة» و«الدولة الإسلامية» في المنطقة، يتبنيان في بدايتهما طروحات علمانيّة. ففي حوار نادر معه، نشرته جريدة «المسرى» (الجهاديّة) في عدد 3 نيسان الماضي، تحدث إياد أغ غالي، زعيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المغرب الإسلاميّ»، عن مسيرته، قائلاً إنّها بدأت بتأسيسه «الحركة الشعبيّة لتحرير أزواد» عام 1978 بدعم من ليبيا، وأنّه «انتقل بعد ذلك بين عامي 1981 و1983، بطلب من القذافي، إلى سوريا ولبنان للقتال ضدّ إسرائيل». مع غزو العراق، «بدأت التحولات الفكريّة»، تبعها الانضمام الى «الدعوة والتبليغ» قبل الالتحاق بـ«القاعدة». أما عدنان أبو الوليد الصحراويّ، زعيم «الدولة الإسلاميّة في الصحراء الكبرى»، فكان منخرطاً في التنظيم الشبابيّ لـ«البوليساريو»، قبل دخول «حركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا» التي تأسست عام 2011. ومع اندماج منظمته مع «الملثمون» بزعامة مختار بلمختار، صار قياديّاً في «المرابطون» الموالية «للقاعدة»، قبل الالتحاق بـ«الدولة» عام 2015.




ما قلّ ودلّ

في ظلّ الحديث الحالي عن توجّه «الجهاديين» نحو سيناء المصرية أو «الصحراء الكبرى» الشاسعة، لا بدّ من التذكير بحوار أجراه عام 2016 الباحث الفرنسي في العلاقات الدولية برتران بادي (الصورة)، يقول فيه إنّ الصراع في الساحل يجمع (في بعده المحلي) بين تحلّل المؤسسات السياسيّة والدولتيّة، والانعدام شبه الكامل للأمم ولعقودها الاجتماعيّة، إضافة إلى ضعف شديد في النموّ الاقتصاديّ ــ الاجتماعيّ، لافتاً إلى أنّ القوى الكبرى لم تعد ترسم الحدود والصراعات، إذ تقلّص دورها إلى التفاعل أو السعي للاحتواء. ولعلّ في هذا الرأي، خاصة في شقّه الثاني، ما يكفي من أسباب لاستعار الصراعات مستقبلاً بين «حُرّاس الخراب»... كدول وكجماعات