ترجمة وتقديم جوان تتر
تعود ملحمة «كِينج خليل» (1) لفترة العهد العثماني الذي كان يحكم المنطقة الكردية سنواتٍ طوال. تسرد الملحمة حكاية أنثى عاشت في العصر ذاك تدعى «حَفسى» (2)، وأُلِّفت الملحمة من قِبلها خلال الساعات الأخيرة في حياة حبيبها «كِينج خليل».

انتشرت بشكل أكبر لاحقاً عن طريق المغني الكردي المشهور كاويس آغا (1889-1936) الذي أدّاها بصوته، لتظهر نسخ عدة ومختلفة لهذه الملحمة، لا يختلف فيها الكلام، ولكن قد يختلف الترتيب فقط، أو ربمّا يُنتقَص شطرٌ أو اثنان، كحكاية حبٍّ قديمة جداً تناقلتها الحناجرُ عبر الأزمان.
المكان الذي تدور فيه أحداث الملحمة هي «آمد» أو «ديار بكر» في تركيا. ونفّذ غناء الملحمة بلهجات كردية مختلفة ضمن إيران وتركيا والعراق وبأصوات غنائية متعدّدة وقتذاك ضمن سياقات موسيقيَّة وصوتيَّة مختلفة.

السَّرد

«حَفسى» تحلم ذات مرة أن ابن عمها «كِينج خليل» يمضي سنواتٍ طويلة كقائد في الجيش العثماني في الشام. وتتوضَّحُ في الرؤيا كذلك أنها تُجبر على الزواج من رجل قبيح مصاب بالجِدري. تحدّث حَفسى والدتها بشأن الحلم، كاعتقادٍ قديم بأنّ الأمّهات يبرعن في تفسير الأحلام، فتنطلق حَفسى مع مجموعة كبيرة من صديقاتها ويبحثن في أماكن كثيرة. يسألن أصحاب القوافل التجاريَّة عن ابن عمها كِينج خليل. محاولات طويلة وعديدة في رحلة البحث عنه، تراه حَفسى في نهاية المطاف وهو في آخر أيَّام عَيشهِ، حيث المرض قد نال منه. وفي هذه اللحظات الأخيرة تغنّي حَفسى الملحمة مادحةً إيَّاه وحبَّهما.
وفقاً لبعض نسخ سرديَّات حكاية الملحمة الأخرى، فإن حَفسى تزوّجت من كِينج خليل قرابة أسبوعٍ فقط، فيما أشارت نسخ أخرى إلى حبٍّ قديم بينهما، إلا أنّ والد حَفسى كان يرفض تزويج ابنته لـكِينج. الملحمة برمّتـها دالَّة على الفراق، فراق المحبين الذي تعجّ الأغاني الكردية القديمة به. الأغاني التي تسرد ملاحم عشقٍ نُقلِت عبر الكلام/ القصص المغنّاة، ضمن قالبٍ شعبيّ مستمرّ ولكن بنُدرة.

منحى الحكاية

تُستكمَل حكاية الحب هذه وفق منحى آخر. أميرٌ بعيش في زمن الحبّ/الأغنية ذاك، حالمٌ متغطرس بتوسيع نفوذه، طامعاً في منطقةٍ عجز عن الحصول عليها رغم قوّته وبطشه.
حلم الأمير ذات ليلة بأنّه وبتعاونٍ ما مع رجل يدعى «كِينج خليل» يتمكّن من السيطرة على تلك المنطقة الخِصبة. يلجأ الأمير في تفسير الحلم وخباياه إلى مستشاره، ومن ثم يُقرَّرُ البحث عن «كِينج خليل». يتمكّن فرسان الأمير من العثور عليه في «آمد» وجلبه بعد رحلة بحثٍ طويلةٍ وشاقَّة استغرقت أيَّاماً وليالي. يوافق كِينج على طلب الأمير بالعون والمساعدة، ولكن يشترط على الأمير أن يتدخّل ليخطب له «حَفسى» بعد أن كلّت محاولاته. يحصل ذلك فعلاً، إذ يرسل الأمير مستشاره في ليلةٍ سوداء ليمتثل والد «حَفسى» للأمر خائفاً من سطوة الأمير. وعلى مضضٍ، يوافق الأب على عقد القران.

كي لا يتفوّه عنه
الأصحاب: إن «كِينج خليل»
كرديٌّ فارسٌ قبيح، سوف
أجعل جدائلي السوداء رسناً لحصان ابن عمي
بعد زفافه، يطلب «كينج خليل» مهلة من الأمير قبل تنفيذ التعاون للسيطرة على المنطقة، فيمضي ثلاثة أيَّامٍ مع عروسه، ومن ثم ينطلق لتنفيذ الطموح القاتل. ينجح فعلاً في السيطرة على المكان الذي حلم به الأمير ويتحقّق الحلم. إلا أن «كِينج خليل» يصاب خلال المعارك ويجرح جرحاً عميقاً يمنعه من الحركة. يمكث في مكان مجهول، بمفرده، بعدما استطاع الهرب بعيداً عن أنظار الفرسان. يختفي داخل بيتٍ مهدّم ومهجور منتظراً ريثما يستردّ عافيته عائداً إلى الحبيبة. على الطرف الآخر، وحين يعود جنود الأمير لبيوتهم غانمين، تسأل «حَفسى» الجنود عن «كِينج خليل» بعد رؤيا الرجل القبيح، لكن من دون عثورٍ على ردٍّ يروي الظمأ. اختفى، فقط هكذا! تروح «حَفسى» تبحث من دون كلل.
في أماكن المعارك التي دارت، تعثر «حَفسى» على بيتٍ شبه مهدّم في رقعةٍ بعيدة خلال درب بحثها. تدنو من الباب، تقف وقلبها يحدّثها بالوصول، ومن ثمّ تسأل بصوتٍ خافت:
- ألا يودّ صاحب البيت ذا ضيوفاً؟
يأتي صوتٌ من مكان ما داخل البيت المهدّم:
- الضيوف أحبّاءُ الله، تفضّلي، لكن حذاري أن تقتربي منّي، أخشى أن ينتقل مرضي إليكِ.
- العلَّةُ من عند الربّ، فأهلاً بها، ردَّت «حَفسى»، وحين تدنو شيئاً فشيئاً، تتوضّح صورة الرجل أكثر، تكتشفُ أن المريض هو ابن عمّها وزوجها «كِينج خليل» في رمقه الأخير لينشد:
- يا ضيق قلبي، اتّسع، وطني وابنة عمي ضاق بهما المكان.
-هل ستغنّين لي يا «حَفسى»، علّ قلبي يتّسع؟ طلب «كِينج خليل».
حين تلقاه على هذه الحال، تغنّي بحرقةٍ، متحدّثةً عن خِصال ابن عمّها وعن حبّها. وعقب انتهاء الأغنية، يموت «كِينج خليل» تاركاً إيّاها لوحدها تواجه الحياة والحبّ الميّت.

هنا مقتطف من الملحمة:

تعالَ يا فتى... اقترب يا ابن عمّي...
لأجل ابن عمي «كِينج خليل» لا أودّ أن أستمرَّ في هذه الحياة.
يا «كِينج خليل»، كانَ لنا صباحٌ، وكان نهر «باشو» ووادي «حوبو» رقعتان نتّخذهما مرتعاً للشوق،
قلبي لأجلك ينبضُ يا ابن عمّي،
في فناء البيت، سوف أمسك يدَ ابن عمي وفرِحةً ألوّنه بالسخام،
سمعتُ أنّ ابن عمي مرهقٌ، ومعلولُ البدَن،
مساءً وحتّى طلوع الشمس، سأدعه يريح رأسه على ساعدي الفاتن، ليُرْسَمَ وجهه على حلمتيّ، إشارةً لصلاة الفجر.
هل سأغدو وسادةً وثيرةً له، يسندُ رأسه عليها؟
حين يمضي نحو البلاد الغريبة، وكي لا يتفوّه عنه الأصحاب: إن «كِينج خليل» كرديٌّ فارسٌ قبيح
سوف أجعل جدائلي السوداء رسناً لحصان ابن عمي، و«خزيم» أنفي مسماراً، وحزام ظهري نعلاً
يا «كِينج خليل».. يا ابن عمّي.. أقسمتُ لنفسي فجراً، حين تتجه نحو بلاد الغرباء، حين تذهب، لن أرتِّب البيت خلفكْ.

■ ■ ■


بأصوات المغنين، بدفوفِ الدراويش، بناي من يعزف عليه، بعزف الملحّنين، وشدو الشحارير والبلابل، بأوتار الطنبور، أنظرُ إلى هذا الصباح يا ابن عمي، مرةً أخرى.
فرحَةً بنفسي سوف أتركك تخلُد للنومِ مُطمئنَّاً.

1 ـ كِينج: تعني في الكردية «الفتى أو الشاب»
2 ـ حَفسى: اسم علم مؤنّث

* ترجم النص عن كاكشار أورامار