القاهرة | يمثل المخرج والمبدع المصري رأفت الميهي (١٩٤٠) الذي رحل ليل الجمعة واحداً من الحالمين والمخلصين القلة لما يسمّى متعة الفن. لم يكن مجرد مخرج متمرد، أو كاتب سيناريو شديد الموهبة، ولا منتجاً سينمائياً يسعى لتقديم فن يحيا في الوجدان وتتناوله الأجيال. لقد كان واحداً من المبدعين الذين يعدون على أصابع اليد على مدار تاريخ الفن العربي. ميّزه إخلاصه ودأبه لفنه وحلمه، وعدم استسلامه للضغوط التي كانت تزداد عليه عاماً تلو آخر.
خاض معارك مع سياسات الدولة المصرية تجاه السينما، وأيضاً ضد قبضايات الاحتكار في الصناعة. قدم العديد من الأفلام الكلاسيكية محكمة البناء، وتمرد على كلاسيكيته عندما وجد أنّ الواقع يزداد عبثاً يوماً بعد يوم. الميهي الذي أطلق العديد من المواهب الفنية، وقدم الكثير من النجوم بشكل مختلف، عانى في أيامه الأخيرة ورحلة مرضه التي استمرت ٦ سنوات، من تجاهل التلاميذ والنجوم على حد سواء. قلة مَن كانت تحرص على زيارته في المستشفى، قبل أن ينسحب تاركاً إبداعاً متفرداً، حاملاً الكثير من الهموم وقسوة الواقع، ونكران الجميل. المخرج والمنتج والمؤلف الذي تمرد علي عبث الواقع بأفلام الفانتازيا التي تسخر من الواقع، جعله المرض يعيش واقعاً شديد المرارة. كان حلمه الوحيد طوال سنوات المرض الوقوف لمرة واحدة خلف الكاميرا من جديد.

من الإنكليزية إلى الفن

رغم أن الميهي تخرج في كلية الآداب (قسم اللغة الإنكليزية)، وعمل في التدريس لفترة، إلا أنّه سرعان ما تمرّد على عمله الروتيني. صحيح أنه كان يعشق التعليم وإعطاء المعلومة، لكنه كان يبحث عما يرضي داخله أكثر. كان يعشق البناء، يبني شيئاً ويراه يكبر أمام عينيه، سواء كان هذا الشيء سيناريو درامياً مكتوباً بحرفية أو فيلماً سينمائياً يحمل رؤيته الفكرية والفنية، أو استوديو (استوديو جلال) يعيد ترميمه ويجدده لتصوَّر داخله أعمال سينمائية تثري الحياة الفنية، أو أكاديمية تعليمية للموهوبين الراغبين في دراسة الفن ولا يملكون الواسطة للالتحاق بأكاديمية الفنون. هذا هو رأفت الميهي الذي خاض معارك عديدة ضد وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني الذي كان يراه وزيراً يخاصم السينما ويراها فناً شعبوياً. كما خاض معارك ضد المحتكرين الكبار في السينما المصرية منهم اسعاد يونس التي كان يؤكد أنّها ستبيع تراث السينما المصرية. ولم يتردد في خوض معارك ضد الرقابة والمتطرفين (رفعت العديد من القضايا ضده في فيلميه «الأفوكاتو» للنجم عادل إمام، و«للحب قصة أخيرة» للنجم يحيي الفخراني). كان أيضاً المبدع الذي وقف في قفص الاتهام وحصل على حكم بالحبس سنة بعد اتهامه بالإساءة للمحامين في فيلمه «الأفوكاتو» (1984) وشخصية حسن سبانخ التي جسدها عادل إمام، ومعهما المخرج الراحل يوسف شاهين موزع الفيلم وقتها. لكن الثلاثة حصلوا على حكم بالبراءة في الاستئناف. أما فيلمه «للحب قصة أخيرة» (1986)، فقد أثار ضجة كبيرة عند عرضه انتهت بتحويل الميهي وبطليه معالي زايد ويحيى الفخراني الى نيابة الآداب.

أفلامه مع كمال
الشيخ حملت جزءاً من رؤيته وقناعاته السياسية، وانكسارات جيل الستينيات
جاء ذلك على خلفية أحد مشاهد الفيلم الذي يحكي قصة سلوى التي تتزوج من رجل يعمل في سلك التدريس وتكتشف أنّه مصاب بالقلب، فتلجأ للتبرك بالشيخ التلاوي والقديسة دميانة. يتفق زوجها مع طبيبه المعالج كي يعلن شفاءه تماماً وإيهام سلوى بأن ثمة خطأ في التشخيص الأول. تعتقد أن ذلك بفضل الشيخ والقسيس، ثم يموت الزوج، فتكفر بكل شيء وتصبّ غضبها على رموز الشعوذة. ورغم أنّ الشريط يقارب قضيته في قالب شديد الرقة والإنسانية، إلا أنّ مشهداً واحداً جمع بين معالي ويحيى أثار ضجة كبيرة، وأعلن الفنانون رفضهم للموقف واعتبروا ذلك بمثابة عودة لمحاكم التفتيش. لكن المشهد حُذف، ولو بقي الفيلم ممنوعاً من العرض التلفزيوني. المفارقة أنّ الفيلم نفسه حصل على جائزة خاصة في «مهرجان كارلوفي فاري» في تشيكيا.

من الكلاسيكية إلى تكسير التابوهات

لم يكن الميهي شخصاً تقليدياً. على العكس، كان يرغب في كسر التابوهات، والاصطدام مع عبث الواقع وازدواجيته. لكنه كان يملك من الذكاء ما يجعله يدرك جيداً أنّ الطريق ليس ممهداً للبدايات الصادمة. لذلك، اختار بداية تقليدية يعلن فيها موهبته، واختلافه. كانت بداياته ككاتب سيناريو مع الأعمال الأدبية التي يعدها للسينما، ويطرح من خلالها رؤيته إلى الواقع. اختار رواية «جفت الأمطار» للكاتب عبد الله الطوخي لتكون أولى تجاربه، والاختبار الأول لقدراته وموهبته، ليقدم مع المخرج سيد عيسى العائد من بعثة دراسية في موسكو، فيلمه الروائي الطويل الأول حاملاً عنوان الرواية. عرض الفيلم عام 1967 بعد النكسة، فلم يلق ترحيباً كافياً لأنّ الموضوع كان مغايراً عن النمط السائد حينها وفق الناقد السينمائي علي أبو شادي.
كغيره من شباب السينمائيين في تلك الفترة، كان الميهي يحلم بسينما مختلفة تعبر عن الواقع المصري المعاصر، وتسهم في تغييره إلى الأفضل والانطلاق نحو مستقبل يرنو للتقدم. سينما تبحث عن أساليب فنية جديدة تطويراً للغة باتت عتيقة، في مواكبة لحركات التمرد والتطور في السينما العالمية في ذلك الوقت. سينما تعكس آلام وهموم وأحلام المواطن المصري.
نجح الميهي في الاختبار الأول، وقدّم نفسه بقوة كموهبة جديدة تمتلك الثقافة والحرفة والوعي. بعدها، التقى المخرج الكبير كمال الشيخ، وشكّلا ثنائياً أثرى السينما المصرية في السبعينيات بأربعة أفلام تعد من كلاسيكياتها، هي: «غروب وشروق»، و«شيء في صدري»، و«الهارب» ثم رائعتهما «على من نطلق الرصاص».
كما كتب السيناريو لرواية «أين عقلي» عن قصة احسان عبد القدوس الذي سبق وكتب سيناريو روايته «شيء في صدري» ثم «الرصاصة لا تزال في جيبي» (إخراج حسام الدين مصطفى) و«الحب الذي كان»، و«غرباء» مع المخرج سعد عرفة ثم اتجه إلى الفانتازيا في أفلامه كمخرج.
الأفلام الأربعة مع كمال الشيخ أطلقت موهبة الميهي، وحملت جزءاً كبيراً من رؤيته وقناعاته السياسية، وهموم وانكسارات جيل الستينات. لا يستطيع المتابع أن يفصل هذه الأفلام عن الأحداث السياسية التي شهدتها مصر في تلك الحقبة. جيل حلم بأنه سيمتلك كل شيء بعد «ثورة يوليو»، لكنه أفاق على هزيمة مريرة. لعل الميهي الذي كان أحد الحالمين الكبار، انكسرت روحه مع الهزيمة. صار يرى الواقع بمنظور مختلف، خصوصاً في ظل التحولات التي شهدها المجتمع المصري من هزيمة وانتصار ثم توقيع اتفاقية السلام. كل ما كان مستحيلاً وضرباً من ضروب الخيال صار واقعاً جاثماً على الصدور تخطته الحكومات وتصالحت معه، وتجرعت مرارته الشعوب. بعدها، جاء تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي حيث كل شيء صار مباحاً ومتاحاً لمن يملك المال. تراجع كل ما له علاقة بالمبادئ والثقافة والتنوير. كان أمام الميهي حلان لا ثالث لهما وفق تصريحات أدلى بها لصاحبة هذه السطور في أحد الحوارات التي تعود إلى منتصف التسعينيات: إما أن ينسحب ويعود إلى قريته في المنوفية (إحدى محافظات وسط الدلتا في مصر)، أو يتمرد على الواقع المرير والشديد القسوة، وهذا ما فعله الميهي. تكيّف مع الواقع الذي كان يرفضه بداخله عبر صنع أفلام تحاكي عبث الواقع وربما تفوقه. كما عمد إلى تكسير التابوهات بدءاً من علاقة الرجل بالمرأة وصولاً إلى مفهوم السلطة الأبوية.
تجلى ذلك بوضوح في ثلاثيته «السادة الرجال» (1987)، و«سمك.. لبن.. تمر هندي» (1988)، و«سيداتي آنساتي» (1990). لقد حاول طرح هموم الواقع اليومي وما يشوبه من فوضى وارتباك. انطلق في صياغة سيناريوهات الفانتازيا التي قدمها من فرضية درامية غاية في البساطة أغلبها يتعلق بمَ لو كانت الصورة معكوسة: المرأة تختار أن تتزوج بأربعة وليس الرجل. ماذا سيفعل الرجل؟ المرأة تقرر أن تتحول إلى ذكر في محاولة للتمرد على قهر المجتمع الذكوري لها.
في «السادة الرجال»، تجد فوزية (جسدتها الراحلة معالي زايد) نفسها ضحية للمجتمع الذكوري من الزوج والأب، فتقرر أن تكون رجلاً لتدفع عن نفسها ذلك الظلم. اندفعت تلعب دور الرجل إلى أقصى مدى، ما اضطر الرجل نفسه للعب دور المرأة حتى لا تختل قوانين الطبيعة ويرتبك ميزان الحياة. وفي «سمك.. لبن.. تمر هندي»، خلق جواً كابوسياً مروعاً بجعل بطليه هدفاً لملاحقات ومطاردات لا يعرفان لها سبباً، مُطلِقاً العنان لخياله الخصب والجامح. وعاد الميهي في «سيداتي آنساتي» ليعلب على تناقضات الواقع، وخلل العلاقات، والفهم الخاطئ للدين وعدم تقدير العلم والعلماء. كان بطل العمل النجم محمود عبد العزيز يردد جملة «ما علينا» كلما وجد المجتمع رافضاً لأفكاره. يطرح الفيلم سؤالاً يبدو مشروعاً: إذا كان الشرع يتيح للرجل الزواج من أربع، فما هو المانع أن تلعب النسوة الأربع الدور نفسه؟ وماذا يمنع شاب مثقف صغير السن من التزوج من سيدة في عمر أمه؟ مرة أخرى، قلب الميهي الأوضاع المألوفة والمعتادة، ليكشف عما أصاب المجتمع المصري من خلل في السلوك، والفهم، والنُظم، والقيم التي باتت تحكم العلاقات الاجتماعية.
بعد فترة، عاد الميهي إلى الأدب حيث قدم رواية الأديب فتحي غانم «قليل من الحب... كثير من العنف» (1995). لكنّ أعماله الأخيرة لم تحقق نجاحاً كبيراً وتحديداً فيلمي «علشان ربنا يحبك» (2000) و«شرم برم» (2001) نظراً إلى تسيّد موجة أفلام الكوميديا وتصدّر نجومها المشهد. هذا ما جعله يكتفي بـ «استوديو جلال» و«أكاديمية الميهي للفنون». كما قدم تجربة درامية يتيمة للتلفزيون هي رواية «وكالة عطية» (2009) للأديب خيري شلبي. كان حلمه أيضاً أن يحول روايته «هورجادا... سحر العشق» إلى نص سينمائي، لكنه لم يحصل للأسف على موافقة الرقابة، لأنّ التيمة الرئيسية تدور حول قصة حب بين فتاة مسيحية وشاب مسلم.
رحل الميهي تاركاً عبثاً أكبر في الواقع، ولم يتحقق حلمه بواقع أكثر عدالة وإنسانية. لكنه ترك تراثاً من الإبداع والنضال ضد الظلم الاجتماعي والمعايير المقلوبة. على الأقل، لم يهادن التيار بل سبح عكسه، وقاوم وناضل ولم يستسلم.