رام الله | إنه الرباط في الأرض المقدسة، هو ذلك الذي يعيننا على مواجهة العدو الصهيوني. نقف بعدما أطلقوا النار على أقدامنا، نستمر في الحياة في مقابرهم وسجونهم، نصبر حين يقتلوا أحبتنا. كل ذلك الخراب الذي يحيط بنا لا يُدهشنا، نحنُ الذين نعرف أن من يعيش تحت احتلال عليه أن يتوقع كل شيء، لكن الشيء الذي يكسرنا لم يأتِ من عدو هذه المرة، بل من أبناء البلد الذين شاركونا يوماً في حمل السلاح، أولئك الذين يغلقون الطريق التي نسلكها لمواجهة العدو باعتقالنا، ففي عام 2016 بلغت حالات الاعتقال السياسي في سجون السلطة الفلسطينية 1052 و606 استدعاء، فيما وصل عدد المعتقلين منذ بداية 2017 حتى اللحظة إلى 1040 معتقلاً و546 استدعاءً.
كل مؤسسات المجتمع وأفراده يعانون من الاعتقال السياسي الذي يُعَدّ غير مشروع بموجب قرار أعلى هيئة قضائية في فلسطين، وهي محكمة العدل العليا، الصادر في 20 فبراير/ شباط 1999، لكنه في الواقع يضرب بالقضاء عُرض الحائط ويستمد شرعيته من السلطات التنفيذية وأصحاب القرار السياسي. فالكثير من المواطنين الذين يُعتقَلون لا تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتحويلهم إلى القضاء، وهناك ما يُسمى «الاعتقال على ذمة المحافظ»، وهو ما يشبه الاعتقال الإداري في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا أحد يعرف أسباب الاعتقال ولا يحق للمحامي التدخل. وهناك من يُصدر القضاء حكماً بالإفراج عنهم عدة مرات، لكن لا يُنفَّذ الحكم، كما حصل مع المواطن شادي النمورة الذي صدرت بحقه أربعة أحكام بالإفراج، لكن الأجهزة الأمنية ترفض قرار المحكمة على الرغم من مرور عدة أشهر على اعتقاله، فضلاً عن إهانة الأجهزة الأمنية لهيبة القضاء كما حصل قبل فترة وجيزة مع المحامي محمد حسين الذي قامت مجموعة من أفراد الأجهزة الأمنية باختطافه والاعتداء عليه في غرفة القاضي وسط المحكمة أثناء تأديته لعمله.
في الجامعات الفلسطينية أيضاً، يجري التركيز على الاعتقالات السياسية للطلاب الناشطين سياسياً ذوي الخلفيات الإسلامية واليسارية، ويجري التضييق عليهم ومنعهم من إقامة بعض النشاطات، كما حصل حين منعت جامعة «النجاح الوطنية» فعالية للقدس نظمها طلاب «الكتلة الإسلامية». وهذه الاعتقالات سبّبت ضياع عدة سنوات دراسية على الطلاب بسبب توقيت اعتقالهم الذي يكون آخر الفصل الدراسي، وكل هذا بسبب معرفة الأجهزة الأمنية لمكانة الحركات الطلابية منذ القدم في تعبئة الشباب للمقاومة وتجهيز العمليات ضد العدو، فقد خرّجت هذه الجامعات الكثير من القادة العسكريين والمناضلين الذين أوجعوا الاحتلال بعملياتهم النوعية.

يجري التركيز
في الجامعات
على الاعتقالات السياسية للطلاب


حين تتخرج أيضاً لا تسلم من هذا الكابوس، يكفي أن تحمل فكراً مقاوماً أو لكونِكَ شخصية مستقلة تسعى إلى كشف الفساد، تُحرَم التوظيف في كافة المؤسسات الحكومية، حتى لو كنت متفوقاً ومبدعاً، وإن حدث أن عارضتهم خلال عملك بمؤسسة ما، تُفصَل تعسُّفاً، وهذا ما حصل مع آلاف المواطنين في الضفة الغربية ــ فضلاً عن منعك من السفر ــ التي تتعاون فيها السلطة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي. فكل شخص غير مرضيّ عنه ولا تستطيع السلطة توبيخه أو التضييق عليه بسبب مكانته المجتمعية، وخوفاً من الرأي العام، يتسلّم الاحتلال الإسرائيلي أمره.
الكثير من الانتهاكات في هذا الملف، وفي كل مرة تدهشنا ابتكارات السلطة لانتهاك حقوقنا وإنسانيتنا، وكما في كل مرة لا أحد يعترف بذلك، فالأجهزة الأمنية، سواء في الضفة الغربية أو في غزة، لا تعترف بوجود اعتقالات سياسية، ومع أن الوضع الأمني في غزة أكثر حساسية بسبب وجود المقاومة المسلحة وضرورة الحفاظ عليها، إلا أن المنظمات الحقوقية تسجل العديد من الانتهاكات هناك.
لكن الاستمرار في الانتهاك والتمادي في الخصومة بين أبناء الشعب الواحد يظهر جلياً في الضفة الغربية، فما معنى أن يُحقَّق مع الفلسطيني بالتهم نفسها التي يحقق معه فيها العدو الإسرائيلي. ما معنى أن يُستهدَف الأسرى المحررون وأن تُقطَع رواتبهم وأن يجري اعتقالهم بدلاً من تهنئتهم بالإفراج، وما معنى أن يخرج المعتقل السياسي من سجون السلطة ليعتقله الاحتلال الإسرائيلي؟ لماذا تُصادَر أموالنا ويُحقَّق معنا عندما يصلنا أي مبلغ ولو كان صغيراً؟ وهذا ما حصل أخيراً مع الكثير من الشباب الذين اعتُقلوا بسبب تسلّمهم مبالغ مالية بسيطة استخدموها لأغراض شخصية، وفي هذه الحالة يُعذَّب الشخص ويُرفَض الإفراج عنه، حتى يسلم المبلغ إلى السلطة! لماذا تُصادَر هواتفنا وأجهزة الحواسيب الخاصة بنا وتُنتهَك خصوصيتنا؟
إن الأمر لا يقف هنا، فكل سؤال طرحته أملك تفصيلاً موجعاً للإجابة عنه، هذا الوجع الذي لا يقلّ عن ألم التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون في السجون الفلسطينية، من ضرب وحرمانهم النوم وإجبارهم على الوقوف لأيام، والتبوّل في زجاجة فارغة وحجزهم في زنازين تفتقر إلى أدنى المقومات الإنسانية، فضلاً عن الإهانة والشتائم، وأصناف تعذيب أخرى تؤدي إلى تدهور صحة المعتقلين الذين يُضرب أغلبهم عن الطعام كوسيلة أخيرة للتحدي أو كنوع من الاستسلام الذي يوصل المعتقل إلى قناعة مفادها أن الموت أرحم من الحياة كهذه. وقد نُقل العديد منهم إلى المشفى بعدما شارفوا على الموت، كما حصل مع الطالب الجامعي محمد نمروطي الذي أجرى قبل أيام عملية قسطرة في القلب بسبب الضغوطات التي تعرض لها أثناء التحقيق، فيما أعادته الأجهزة الأمنية إلى سجن أريحا بعد ساعتين من إجراء العملية، أو ما يُعرف بـ«المسلخ» الذي يشهد على الكثير من حالات الإجرام في التعذيب التي أدت إلى استشهاد البعض، كما حصل مع المعتقل السياسي فادي حمادنة.

... وفي الإعلام أيضاً

الأكثر خطورة هو الانتهاك السافر للحريات الإعلامية، وابتكار تُهم مضحكة وقوانين مُجحفة لتقييد حرية الرأي، مثل قانون الجرائم الإلكترونية الذي يتضمن 61 مادة تحمل تفسيرات مطاطة وتجعل القانون عرضة لإساءة الاستخدام، ويعطي الحق للأجهزة الأمنية بمراقبة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وإغلاق بعضها ويفرض على شركات الإنترنت تزويد الأمن بمعلومات المستخدمين والاحتفاظ ببياناتهم لعدة سنوات دون أمر قضائي، ويُجرِّم من يضع «إعجاباً» على منشور لا يعجب السلطات وقد يسبّب اعتقاله أو تغريمه.
أما التُّهَم المضحكة التي ابتكرتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية والتي جرى التحقيق معي شخصياً تحت بنودها، فتراوح من «التسول» إلى «قدح الرئيس» و«التطاول على مقامات عُليا» و«إثارة النعرات الطائفية» و«إطالة اللسان»، وتلك الأخيرة التي جعلتني أخرج من غرفة التحقيق في النيابةِ العامةِ في مدينة نابلس في أواخرِ عام 2014، غير مكترثة بالأصفاد التي كانت في انتظاري. أفكر في هذه التُّهم وسؤال واحد يراودني: ما الطول المناسب الذي تريد السلطة أن يكون عليه لسان الصحافي في هذا البلد؟ وما هي المقامات العليا المُرفعة عن المُحاسبة، نحن الذين كنا وما زلنا على قناعة تامة بأن الشهداء والمناضلين والأسرى هم فقط أصحاب المقامات العليا التي لا نسمح لأحد بالتطاول عليها، ولن يكون السياسيون أصحاب مثل هذه المقامات، لن يتوقف لساننا عن النمو، فليست لدينا طوائف لنثير النعرات فيها، ولا نملك «مقدح» نزعج به راحة الرئيس، وأخلاقنا لا تسمح بالتطاول على أحد إلا بالحق، فإذا كان الحق يوجعكم فسنظل «نضع نصل الصدق الجارح على رقابكم».
إنّ السبب وراء تمادي السلطة الفلسطينية في اعتقالنا وإهانتنا هو الفكر الذي نحمله والذي من المتوقع أن يُترجم لاحقاً إلى عمل يضرّ بنفوذهم أو يسبب خرق الاتفاقيات الموقعة بينهم وبين العدو الإسرائيلي، والتي تتمثل بالتنسيق الأمني وتشكل درع أمان للاحتلال، وللسبب نفسه أرسل لي ضابط المخابرات الإسرائيلي تهديداً مبطناً أثناء تحقيقه معي عام 2014، قائلاً: «إننا نتابع كل شيء تكتبينه». ومن هنا نستنتج أنّ هذا الضابط كبقية الصهاينة الذين يحملون عقلية غولدا مائير التي قالت عند اغتيال غسان كنفاني: «اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان بقلمه كان يشكل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح».