العقبة الرئيسية التي تمنع امتداد الانتفاضة الفلسطينية الحالية إلى جميع مدن وبلدات الضفة الغربية وتحوّلها إلى انتفاضة شعبية شاملة ضد الاحتلال هي السلطة الفلسطينية، أو بتعبير أدق سلطة التنسيق الأمني. جميع الذين يعقدون المقارنات بين الانتفاضتين الأولى والثانية وبين المواجهات الدائرة الآن في الأرض المحتلة ليستنتجوا عدم مطابقتها لهما لجهة حجم المشاركة الشعبية والشمولية، وبالتالي عدم وجود انتفاضة، يتناسون التحوّل الخطير الذي طرأ على دور السلطة الفلسطينية بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات.
بعد أبو عمار، باتت الوظيفة الأمنية للسلطة هي وظيفتها الرئيسية، وهو أمر ينسجم تماماً مع الرؤية الفعلية للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية لاتفاق أوسلو باعتباره يؤسس لقيام سلطة محلية رديفة للاحتلال.
أربكت الانتفاضة الأولى، التي استمرت حوالى أربع سنوات، هذا الاحتلال. وعلى الرغم من السياق الدولي والإقليمي الصعب بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني آنذاك (الحرب ضد العراق بسبب غزو الكويت وطرد آلاف الفلسطينيين من الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي)، فإن استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على المدن والبلدات والمخيمات في الضفة الغربية والقطاع كان ينذر بتجدد المواجهات في أي لحظة. التخفف من عبء إدارة شؤون السكان عبر تلزيمه لسلطة محلية والتفرغ لمشروع استيطان وضم الأرض والسيطرة على الموارد هي الاعتبارات التي دفعت إسرائيل إلى الموافقة على المهزلة المسماة عملية التسوية. لكن ياسر عرفات لم يقبل بدور الرديف. هو قدّم تنازلات خطيرة، وبعضها كارثي، ليستطيع الحصول على موطئ قدم في فلسطين وراهن على أمكانية أن تكون إدارة كلينتون يومها صادقة في مساعيها لإنجاح عملية التسوية كعامل مساعد على تثبيت الاستقرار في منطقة تسعى الولايات المتحدة إلى الهيمنة عليها. غير أنه لم يدفن خيار المقاومة حتى قبل إطلاقه الانتفاضة الثانية عام 2000. ففي الجزء الثاني من التسعينيات، تكاثرت الاتهامات الإسرائيلية للشهيد عرفات بأنه يعتمد مع مجموعات المقاومة سياسة الباب الدوّار: اعتقالهم لفترة وجيزة قبل إعادة إطلاق سراحهم. وقد أسرّ موشيه يعلون في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» إلى أنه اقتنع بأن على إسرائيل الاستعداد لمواجهة عسكرية مع السلطة الفلسطينية منذ عام 1995. فقد ذهب في تلك الفترة لمقابلة عرفات، وسأله عن سبب عدم اعتقال السلطة الفلسطينية محمد ضيف، القائد العسكري لكتائب عز الدين القسام. فأجاب عرفات: محمد من؟ فأردف يعلون: محمد ضيف، الرجل الذي كان جالساً الأسبوع الماضي حيث أجلس أنا الآن. أما بالنسبة إلى الانتفاضة الثانية، فقد كان لعرفات دور رئيسي في إطلاقها وفي «عسكرتها» وهو أمر دفع الكثير من «الحمائم» المحيطين به إلى نقده علناً، ومنهم رئيس السلطة الحالي محمود عباس وياسر عبد ربه وآخرون. مضى أبو عمار في خيار المواجهة حتى الشهادة.
استغل فريق الحمائم الفراغ الناجم عن غيابه وعن غياب غالبية الصف الأول لحركة فتح كأبو جهاد وأبو أياد وأبو الهول الذين سبقوه إلى الشهادة ليتخلى تماماً عن خيار المقاومة وليقبل بالدور المحدد من قبل إسرائيل والولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية باعتبارها رديفاً للاحتلال، على قاعدة أنه ليس هناك من خيارات أخرى ومنطق محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه والأمل بالحصول على ما يشبه الدولة في نهاية المطاف.
للسلطة الفلسطينية سبعة أجهزة أمنية، وهي: المخابرات العامة تضم 5000 عنصر، الاستخبارات العسكرية تضم 3000 عنصر، الأمن الوقائي يضم 5000 عنصر، الشرطة تضم 8000 عنصر، الأمن الوطني يضم 8000 عنصر، أمن الرئاسة يضم 2500 عنصر والضابطة الجمركية تضم 2000 عنصر. للمخابرات العامة سجن في كل مدينة، لكن أكبر السجون التي يمارس فيها التعذيب بشكل منهجي، حسب تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، هي: سجن الجنيد في نابلس، سجن أريحا (المسلخ) وسجن طولكرم. وقد بلغ عدد المعتقلين في عام 2017 ما يقارب 1040 معتقلاً وفي سنة 2016 1052 معتقلاً. قسم مهم من هذه الأجهزة يؤدي دوراً نشطاً في التنسيق الأمني مع الاحتلال وفي كشف واعتقال مقاومين وإفشال مئات العمليات الفدائية، ويتحمل أيضاً مسؤولية اغتيال مقاومين على يد قوات الاحتلال نتيجة وشايته بهم. السؤال الذي يفرض نفسه على كل فلسطيني اليوم بعد تصاعد الصراع حول القدس وتبدد أوهام التسوية بشكل كامل، وبينما تستمر الأجهزة الأمنية في ملاحقة واعتقال الشباب المنتفض، هو الآتي: هل من المعقول استمرار التنسيق الأمني؟ السؤال موجه إلى كل فلسطيني بمن فيهم العناصر الوطنية داخل مؤسسات السلطة. أضعف الإيمان إلزام السلطة بالوقف الفوري لهذا التنسيق الأمني الخياني أو الدعوة إلى الاستقالة الجماعية من جميع مؤسسات السلطة، بدءاً بالأجهزة الأمنية.