بين «لهفة» و«شهوة»… بين «جنس» استفزازي يتحدّى اللياقات البورجوازيّة بجذل وملعنة طفوليّة، و«حب» و«حنين» يعصران القلب… بين طرفي العمر إذ يلتقيان فوق هذا المسرح العبثي… تخرطش لور غريّب وتلوّن، تروي وتروي ثم تروي، في مشاهد ولقطات متجاورة، متشابهة، متداخلة، قصصها التي لا تنتهي. المحارِبة القديمة لم تستسلم، بل تخوض هنا معركتها الجديدة حيث لا يجرؤ كثيرون، وحيث لا ينتظرها أحد. بالحبر الصيني دائماً.
وأيضاً بالخيوط الملوّنة، والأقمشة، والخرز ومواد غريبة أخرى تستعملها البنات في اللعب. تخوض معركة جديدة كأنّها الأولى. لور الفنّانة، الكاتبة، الناقدة، الشاهدة على السنوات الخصبة، وزمن صعود الأحلام والتجارب، مع رفيق عمرها الممثل والمسرحي النادر أنطوان كرباج الذي لا تتوقّف عن رسمه، ورسم نفسها. «الغرام. رغم المرض أحبك انت الواقع في الهذيان». كل الأبطال هو. كل البطلات هي. وهناك الأبناء والبنات والأحفاد. «كل الرجال الذين أرسمهم هم أنطوان. لم أعرف رجالاً غيره»، تقولها كمن يعترف بسرّ، مُطرقة كصبيّة أربكها الخجل. بحنان لا يخلو من المزاح مع الذات والضحك من العالم. لور الرسامة، الحكواتيّة التي اشتهرت بمنمنماتها. ترسم كمن يروي، ترسم لتروي. ترسم وتروي. تخلق شخوصها وديكوراتها المؤسلبة، تخترع عوالمها المستقبليّة، الساذجة، السريالية. تخرطش على رسماتها حكَماً، ومونولوغات، وتأملات، وتعليقات تلخّص الحالة. مثلاً: «بين الواقع والتوقّع تتأرجح النوايا». تخاطب صورتها المنحنية فوق عرّ من الكائنات الصغيرة: ««أنتِ الشبح الذي اغتال الواقع. 1939 - …». إن الكتابة في معرض «نشوة العين»، جزء من اللوحة، أو الرسمة، وعنصر مؤسس لها. «لن أحبّك حتى يوم القيامة»، «النور يأتي من القلب»، وهكذا. العبارات، الماغوطيّة الوقع، التي تزنّر اللوحات، ترصّعها، تشكل امتداداً لخطوطها… تنتابك رغبة في أن تنقلها كلها هنا، بحثاً عن قصيدة خفيّة.
تستعيد الفنانة المشاعر الأولى، الحكاية الأصليّة التي تولد منها كل الحكايات. لور الأنثى حتى أدق تفاصيل منمنماتها. الزوجة، الحبيبة، الأم، الجدّة. كل أطوار الحياة ومراحلها تجسّدها بطلة المعرض: الطفلة التي لم تكبر. «تنتابني رغبة في أن أحلم! كان يا ما كان طفلة لا تتوقف عن الحلم». هذا المعرض تختصره ربّما تلك اللوحة الصغيرة التي نثرت عليها طلاسم وقلباً أحمر ورموزاً بَحريّة كالياطر وغيره، وكتابة بالأخضر وبالفرنسيّة: «أحلام طفلة صغيرة في الخامسة والثمانين». لور غريّب جدّة سعيدة، تتمترس خلف لامبالاة الطفولة وسذاجتها وعبثها وعفويّتها. تستعين على العمر والألم والخوف، بالصور والوجوه والحكايات المستعادة إلى ما لا نهاية. بالمشاهد العائليّة المكررة. في إحدى الرسوم، تقدّم الجدّة أحفادها لأمّها في لعبة مستويات تكثّف الزمن. هكذا بلغت في مرحلتها الجديدة أعلى مراتب الطفولة. «وحدهم الأطفال يعيشون طويلاً»»، كتب الشاعر والفيلسوف الإيطالي جياكومو ليوباردي أوائل القرن التاسع عشر، هرباً من التقاليد الأرستقراطيّة المحافظة. لور طفلة تعيش طويلاً لترسم حياتها. وتغلب الوقت. لقد عرّتها من المنمقات البصريّة، وجاهرت بها على الملأ. كلا، ليست «عودة إلى الطفولة»، كما سيقول بعضكم، بل ذهاب إليها!
ولور أنثى «آتية من رحم العذاب». أنوثتها تمرّد خافت، ومواجهة هادئة للعالم. إنّها فوضويّة، مثل ريمون جبارة وأنسي الحاج ومارون بغدادي… المرأة الوحيدة بين شلّة من الرجال. مثلهم هي «فوضويّة محافظة»، تبقى في قلب منظومة القيم السائدة. لا تخرج عليها، أو تقطع معها. لذا تراها تدوّن يوميّات جدّة مطمئنة، قصصها خلاصة حياة استثنائيّة، ومصير استثنائي. حكايات جيل شهد على صعود العصر الذهبي ثم أفوله. حكايات تراشقتها، في معارض سابقة، مع ابنها مازن كرباج، في ظلّ الأب دائماً. تحاورا بشأن أمور ومسائل ومراجع كثيرة، على مساحة اللوحة الواحدة. هو يشعر بحاجة الى معرفة القصص، وسبر الأغوار، وفهم التفاصيل، وهي تعبث وتروي وتخرطش وتنمنم. هكذا تشيطنا معاً، وعبثا بأسرار الزمن السعيد. هذه المرّة، لور وحدها، تتحاور مع أطياف العائلة. في المعرض الحالي، تأخذك اللوحات الكبيرة بالأبيض والأسود (تصل إلى المتر ونصف المتر، حبر صيني وتقنيات مختلفة على كرتون)، تلك التي يشكّل سطحها بحراً هائجاً، بمستوياتها السرديّة وكائناتها وديكوراتها وحشودها وخواطرها الفلسفيّة. ثم يضيع الزائر في تفاصيل الجدار المقابل، حيث أعمال بمقاسات صغيرة (18*13 سنتم)، وجوه ملوّنة بمواد متفرّقة توحي من بعيد بكولاجات غريبة (تقنيات مختلفة على قماش). النساء كلّهن لور، محاطة بالأبناء والأحفاد. وفي وسط القاعة تتدلّى من السقف سلسلة من الأعمال الصغيرة: سبّحات من رسوم الجيب (5*5 سنتم)، في علب خشبية مترابطة تدور حول نفسها بلا كلل، كلّما حاولت الامساك بها. بوتيرة واحدة، متكررة في كل ضربة قلم، تبدو الرسومات الصغيرة أشبه بتمارين على السعادة. فيض جارف من الاسكتشات التي تتقاطع مع شعر الهايكو، في اخترالها ودائريتها، وإلتقاطها تفاصيل الحياة العادية البسيطة، بكثافة تحمل أبعاداً فكرية عميقة.
تخرج من معرض لور غريّب في «غاليري جانين ربيز» على كورنيش بيروت، وانت تشعر بأنك تستطيع أن تطير. منمنمات الطفولة العابثة تمحو ندوب الحياة... وخفة الجدّة السعيدة تحتال على أحكام الجاذبية. من أين للطفلة الثمانينية كل هذه اللهفة؟ المعرض مستمر لأسبوعين... لا تفوتوه!