د. فادي حمدانلا بدّ من الإصرار على خلق إطار وطني للسلامة وحماية البيئة ترشد عملية تصميم واستخدام منشآت التنقيب واستخراج النفط والغاز. ففي العديد من الأحيان، الشركة البترولية ذاتها التي تعمل في بلدان مختلفة، ذات قوانين سلامة مختلفة، قد تلجأ إلى خيارات غير سليمة تؤدي إلى خسائر في الأرواح، وإلى أضرار بيئية وخسائر اقتصادية كان ممكن تفاديها لو التزمت في القوانين التي ترشد عملها في بلد آخر.

هذا المثل يتم استخدامه لتحليل حادثة ديبواتر هورايزون (Deepwater horizon) في خليج المكسيك ضمن المياه الإقليمية للولايات المتحدة في عام ٢٠١٠ والتي أدت إلى وفاة 11 عاملاً وإلى أكبر حجم من التسرب النفطي في تاريخ استخراج النفط- حيث يقال إن الشركات نفسها لو كانت تعمل ضمن هيكلية إدارة المخاطر في بحر الشمال في أوروبا لكانت قد اضطرت إلى اعتماد درجات أعلى من السلامة والوفرة – (Redundancy) وبالتالي تفادت الحادثة. هذا بالتحديد يعني ضرورة وضع بيئة ناظمة لبنانية لإدارة المخاطر في هذه المنشآت وعدم السماح للشركات أن تقوم هي نفسها بتحديد شدة ووتيرة الأخطار (زلازل، حرائق، انفجارات، عواصف) الواجب اعتمادها عند تصميم المنشآت، أو اختيار فلسفة إدارة مخاطر الأخطار التي تم تحديدها.


الممارسات الحالية

لا بد من تحديد بعض التحديات الأساسية ضمن الممارسات الحالية لإدارة مخاطر الكوارث، وذات التأثير المباشر على سلامة المنشآت البترولية في البحار. حالياً قانون السلامة العامة في الأبنية والمصانع يتطرق للحرائق والزلازل. قد يكون هذا المزيج مقبولاً في الأبنية السكنية ولكنه خاطئ وغير مبرر وغير كاف في المصانع والمنشآت البترولية التي تحتوي على مواد قابلة للاحتراق و/أو الانفجار. وبالتالي لا بد من تطوير هذا المرسوم أو إيجاد مرسوم آخر يتطرق للخطر المزدوج المتمثل بالحرائق والانفجارات في منشآت النفط والغاز (في البحر وعلى اليابسة).


هل سيتم تقييم آثار
النشاطات البترولية على مشاريع التنمية والتكيّف مع تغيّر المناخ والتنوع البيولوجي؟


معلومات وآليات

من أجل تقييم وحماية المنشآت بوجه الزلازل، لا بد من القيام بدراسات موقع تأخذ بالاعتبار جميع خصوصيات المنشأة والموقع. هذا بدوره يتطلب معلومات حول الاحمال الناتجة عن الزلازل في الموقع نفسه على سبيل المثال التسارعات الزلزالية الأفقية والعامودية المتوقعة في موقع المنشأة ( site specific accelerograms)، بالإضافة الى تطوير وتحديد معلومات المخاطر، لا بد من إيجاد آليات لتبادل هذه المعلومات بين هيئات القطاع العام المختلفة وبين الهيئات الأخرى من مجتمع مدني، هيئات ناظمة، جامعات، مراكز أبحاث وقطاع خاص، إعلام، بحسب معايير مسبقة، واضحة وشفافة.


الأبعاد الثلاثة للقطاع العام

في إدارة مخاطر الكوارث يشمل ثلاثة أبعاد، استشرافي، تنظيمي واداري. عملياً، هذا يعني أن تحديد وتيرة وشدة المخاطر الواجب أخذها بعين الاعتبار هو من صلاحيات وواجبات القطاع العام (وليس الشركات). عدم الاضطلاع بهذا الدور قد يؤدي إلى وضع ملتبس حيث كل شركة تقوم بتحديد شدة ووتيرة الأخطار (زلازل، حرائق، انفجارات، عواصف) الواجب اعتمادها عند تصميم المنشآت.
عدم لحظ البنود الأربعة الواردة أعلاه يؤدي الى تفاقم عدم الشفافية وعدم المساءلة وضعف المحاسبة في إدارة مخاطر الكوارث في المنشآت البترولية وهذا بدوره قد يؤدي الى ازدياد حالات الفساد والرشوة في تصميم المنشآت مما يقوض معايير السلامة العامة وحماية البيئة.


مراجعة القوانين

من هذا المنطلق لا بد من مراجعة القوانين اللبنانية لإدارة البترول لتحديد مدى مراعاتها للبنود أعلاه، لا سيما مرسوم رقم ٤٣ الخاص بدورات التراخيص وقانون رقم ١٣٢ الموارد البترولية في المياه البحرية ومرسوم رقم ١٠٢٨٩ ٣ الأنظمة والقواعد.
تنص المادة ٧ فقرة ٢ من قانون الموارد البترولية على ضرورة تقييم الأثر البيئي الاستراتيجي قبل منح أي حقوق بترولية أو السماح بأنشطة بترولية. هنا يجب توسيع نطاق التقييم ليشمل الأثر على جهود التأقلم مع تغير المناخ، على جهود التنمية المستدامة، كما على جهود حماية التنوع البيولوجي. كما تنص المادة ٢٩ الفقرة ٢ هـ على ضرورة أن تحتوي خطة التقييم والإنتاج على تقييم من ناحية الصحة والسلامة ودراسة عن تقييم الأثر البيئي. وهنا لا بد أن يشمل هذا تقييم مخاطر الأخطار الطبيعية (زلازل، تسونامي، عواصف) على المنشأة وانعكاساتها على الصحة والسلامة والبيئة بالإضافة الى المخاطر الناجمة عن النشاطات البترولية في الظروف الاعتيادية.
كما لا بد من تعريف مفهوم الصحة والسلامة وهل يشمل البنود أعلاه أم أنه يقتصر على الصحة والسلامة المهنية (المذكورة في الفقرة ٢من المادة ٥٩). وخاصة أن هذه المفاهيم لم يتم تعريفها في المادة الأولى من القانون (التعريفات).


دور الدولة الرقابي

تشير المادة 130 من المرسوم رقم ١٠٢٨٩ على ضرورة تحليل المخاطر والسلامة حيث من الواجب على صاحب الحق والمشغل أن يسعيا باستمرار الى التقليل من المخاطر. وهنا لا بد من وجود إرشادات إضافية حول منهجية التقليل من المخاطر ومن يحدد مستوى المخاطر المقبولة. كما تنص المادة على ضرورة تقليص المخاطر شرط ألا تكون الكلفة غير متناسبة مع التقليل من المخاطر الذي تم تحقيقه. وهنا أيضاً لا بد من وجود إرشادات إضافية حول كيفية تقييم الكلفة والفوائد (كما تقييم سواء الكلفة متناسبة أم غير متناسبة مع الفوائد) ومن ضمنها القيمة المالية لحماية البيئة وحماية التنوع البيولوجي ولإنقاذ حياة الأفراد، وهذه أمور لا بد للدولة المعنية ان تحددها ضمن دورها الرقابي بإدارة مخاطر الكوارث.

ضرورة ترسيخ ثقافة استباقية للالتزام بالصحة والسلامة والقيم البيئية بين جميع المشاركين
في الأنشطة البترولية


يحتوي مرسوم دفتر الشروط في الملحق رقم ٢على نموذج لاتفاقية الاستكشاف والإنتاج، حيث تعرض المتطلبات المتعلقة بالصحة والسلامة والبيئة. بالإضافة الى المعلومات والمواد المهمة الواردة ضمن هذا الملحق، يجب التحسب الى ضرورة منع التأثير السلبي على مشاريع التنمية المستدامة والتأقلم مع تغير المناخ والتي قد تتأثر بالأنشطة البترولية. وضرورة ترسيخ ثقافة استباقية للالتزام بالصحة والسلامة والقيم البيئية بين جميع المشاركين في الأنشطة البترولية. وضرورة ترسيخ ثقافة استباقية للوقاية من مخاطر الأخطار الطبيعية (الزلازل، التسونامي، العواصف) كما من مخاطر اصطدام السفن في المنشآت البترولية.


الالتزام باتفاقية المناخ

من الضروري القيام بمراجعة شاملة لقوانين وأنظمة إدارة البترول من منظار حماية البيئة والسلامة العامة لا سيما من ناحيتين أساسيتين. يقترح القانون الآن القيام بدراسة جدوى للاستثمارات البترولية لتقييم الأثر البيئي. في هذا الإطار لا بد من توسيع أفق دراسة تقييم الأثر البيئي لتشمل تقييم لسلامة الاستثمارات نفسها، البيئة المجاورة، التجمعات السكنية والممتلكات المجاورة للاستثمارات وتلك التي يمكن أن تتاثر بها. وهذا التقييم يجب أن يشمل تأثير الاستثمارات على وتيرة وشدة الأخطار، وقابلية التضرر الناجمة عن هذه الاخطار، التي يمكن ان تتعرض لها الموارد والتجمعات أعلاه.
كما لا بد من دراسة تاثير الاستثمارات، كل على حدة وجميعها كقطاع، على جهود التنمية المستدامة والتأقلم مع تغير المناخ. وقد أصبح هذا الامر اكثر إلحاحاً بعد توقيع لبنان على اتفاقية باريس المناخية والتزامه بأهداف التنمية المستدامة وإطار سندي للحد من مخاطر الكوارث. وفي هذا الاطار يجب تقييم وترشيد اثر هذه القطاعات على سبيل المثال على القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الصناعة والزراعة التي غالباً ما تصنف على انها ممكن أن تؤمن فرص عمل عديدة وبشروط كريمة (decent jobs) وبالتالي هي تساعد على محاربة الفقر والبطالة ولذلك تساهم في جهود التنمية المستدامة من هذا المنظار.


نقل الخبرات والمهارات

يجب تطوير استراتيجية وطنية لنقل الخبرات على جميع الأصعدة. وعلى سبيل المثال يجب بذل الجهود عبر التشريعات والسياسات الوطنية والقطاعية من أجل نقل الخبرات الى المؤسسات والشركات اللبنانية والتي قد تساهم في نمو هذه الشركات على الصعيد الوطني والاقليمي ونمو فرص العمل المرتبطة بها. من هذه الخبرات مهارات لتصميم المنشآت للتنقيب ولاستخراج النفط في البحار، كما منشات نقل النفط من البحر والى اليابسة (انابيب وناقلات للنفط) ومنشآت تكرير وتخزين ومعالجة المشتقات النفطية على اليابسة لتكون قادرة على مقاومة الاحمال الناتجة عن التشغيل خلال الظروف العادية. ومهارات تطوير معلومات حول أحمال العواصف والأمواج والتيارات والزلازل الثلاثية الأبعاد في موقع المنشآت، تأخذ بالاعتبار خصائص التربة المحلية وتفاوت الموجات الزلزالية من المصدر وحتى موقع المنشآة، مع الاحتمالات السنوية لتخطيها. ومهارات ضمن القطاع العام لوضع برامج قطاعية في القطاعات المختلفة لتقييم وتبويب المخاطر ومن ثم وضع برامج طويلة الأمد لتقليص هذه المخاطر (مثل قطاعات التربية والابنية المدرسية، قطاع الصحة وأبنية المستشفيات، الأبنية الحكومية، البنى التحتية الحيوية).




تحذير حول حوكمة المخاطر

يكثر الحديث في الاونة الاخيرة على ضرورة وجود أدلة ملموسة قبل اتهام المسؤولين بالصفقات والفساد. وبغض النظر عن وجود او عدم وجود هكذا ادلة، وعن صحة الاتهامات ام لا، فإن هذه الاتهامات تعتبر مؤشراً على ضعف الثقة من قبل الجمهور العام بالقرارات المتعلقة بادارة الموارد في القطاع العام (ومن ضمنها موارد المناقصات كما موارد النفط والغاز والأراضي العامة). وهنا من المفيد التذكير بأهمية المشاركة في عملية صنع القرار، كأداة من أدوات تعزيز الثقة بالعملية هذه، ضمن هيكلية حوكمة المخاطر الناجمة عن استخدام الموارد.
فمثلاً، حتى شركات النفط والغاز تعتبر ان الشفافية والمشاركة في عملية صنع القرار هي مهمة جداً وخاصة عندما تكون انعكاسات الاستخدام المعين للموارد غير واضحة سواء من ناحية تلوث البيئة وأثرها على التنوع البيولوجي أو تضرر سبل المعيشة أو إمكانية الإصابات والوفيات أو حتى أثر القطاع على القطاعات الزراعة والصناعة. ومن هذا المنطلق من المفيد تعزيز الشفافية في عملية وضع المقاييس، ادارة المخاطر، بناء وتشغيل المنشآت عبر مشاركة جميع الهيئات المعنية (نقابة المهندسين، الجامعات، النقابات الفنية، الشركات الهندسية، والمجتمعات وأصحاب سبل المعيشة ذات قابلية التضرر المرتفعة) في مراجعة القرارات المتعلقة بادارة مخاطر الكوارث.
غالباً ما نقوم بعملية مقايضة بين الفوائد والمخاطر والخسائر الممكنة التي قد تنجم عن نشاطات معينة ومن ضمنها تلك المتعلقة باستخراج واستخدام الموارد. ولكن يجب وضع المعايير الضرورية لتأمين الحوكمة الرشيدة لهذه المقايضة لكي تضمن حد أدنى من المساواة في توزّع الفوائد الناجمة عن هذه النشاطات (مثلاً خفض الدين العام، توجيه الموارد نحو التنمية المستدامة، دعم القطاع العام) وأيضاً لتفادي تمركز قابلية التضرر، المخاطر والخسائر عند الفئات الأفقر والأضعف والقطاعات الاقتصادية الأقل تمثيلاً.






مقترحات لاستعادة الثقة

ان وجود هكذا قوانين وأنظمة، بالإضافة الى وجود آليات لتطبيقها بشكل صارم، سيساعد الدولة اللبنانية على التصدي بدرجة عالية من المصداقية، وعلى محاسبة، المسؤولين عن أي حادثة تؤدي الى خسارة في الأرواح او في البيئة، سواء كان المصدر من شركة عاملة ضمن المياه اللبنانية أم في دول مجاورة، صديقة كانت أم عدوة. ولذلك يجب:
■ وضع إطار وطني للسلامة وحماية البيئة.
■ تطوير استراتيجية وطنية لنقل الخبرات بهدف تحسين فعالية القطاع العام وتنمية فرص العمل ضمن القطاع الخاص.
■ وضع استراتيجية وطنية للاستفادة من ايرادات استخراج الغاز ضمن الأبعاد المختلفة للتنمية المستدامة والتأقلم مع تغير المناخ، من ضمن مهامها وضع استراتيجية تشاورية مع جميع الهيئات الفاعلة للمشاركة في عملية صنع القرار المتعلقة بادارة سلامة المنشآت كما باستخدام الايرادات الناجمة عنها.
■ إنشاء شركة وطنية للنفط والغاز تساهم في نقل الخبرات للقطاعين العام والخاص وترفع من الإيرادات الممكن استخدامها في عملية التنمية المستدامة في القطاعات المختلقة كما في عملية التأقلم مع تغير المناخ.
وتبقى المفارقة والتحدي: هل ممكن في ظل إزدياد إيرادات الريع (بسبب استخراج الغاز) أن ينتقل اللبنانيون من ثقافة الزبائنية الطائفية (والتي تكرست بعد اتفاق الطائف بحسب تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية) إلى المطالبة بثقافة المواطنة؟ مع العلم انه في الكثير من الأحيان شكلت الثروة النفطية نقمة كرست ثقافة الريع في الدول المنتجة للنفط، وخاصة في البلدان النامية.