إصرار معلمة في الليسيه فردان، التابعة للبعثة العلمانية الفرنسية، على استبدال فلسطين المحتلة بـ «إسرائيل» على الخريطة، ليس حادثة استثنائية وأولى من نوعها. هي واحدة من مئات الحوادث اليومية «غير المتفرقة» في المدارس الخاصة التي لا يخرج منها إلى العلن إلّا القليل. وقد لا يحدث الأمر بالضرورة في مدارس أجنبية تابعة لدول لا مشكلة لها مع إسرائيل، بل أيضاً في مدارس لبنانية تقرر أن تختار كتباً أجنبية مستوردة بالتركيز على مقاربتها لطرائق تدريس حديثة، من دون الالتفات ما إذا كان مضمون المادة يتعارض مع ثوابتنا الوطنية والقومية وخصوصيتنا الثقافية أم لا. عناصر كثيرة في المناهج الأجنبية قد تثير الريبة. من الوارد دائماً أن يعثر المراقب على كتاب معتمد في عدد من المدارس اللبنانية يتضمن «إسرائيل» على الخريطة وليس بالضرورة أن يكون كتاب تاريخ أو جغرافيا، بل قد يكون كتاب قراءة وتعبير لغوي كما هي الحال مع «wonders» الصادر عن دار النشر الأميركية «McGraw-Hill Education».
بعض المدارس التي تعتمد هذا الكتاب تشطب كلمة اسرائيل على الخريطة وتكتب مكانها كلمة فلسطين بقلم الرصاص. كذلك يمكن أن يتعرض الأولاد لقصص وروايات من الأدب العالمي قد يختارها معلمون بأنفسهم من دون أي إملاءات من إدارة المدرسة، وهي بعيدة أيضاً عن بيئتنا وجوّنا.
ولا تغيب عن الذاكرة القريبة الضجة التي أثارها، عام 2009، كتاب «تاريخ العالم الحديث»، الأميركي أيضاً، (يدرس في مدارس لبنانية تتبع النظام التعليمي الأميركي) لجهة اتهامه حركات المقاومة مثل حزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي بالإرهاب. وبعضنا يتذكر كيف رفض معلمون في مدارس البعثة العلمانية الفرنسية في لبنان الوقوف دقيقة صمت، بطلب من البعثة يومها، على أرواح تلميذين يهوديين سقطا عام 2012 بنار شاب فرنسي من أصول جزائرية في مدرسة يهودية جنوب فرنسا.
في هذا المسار، لا يجب إغفال اشتراط الحكومة البريطانية عام 2014 وضع اسم «إسرائيل» (لا فلسطين المحتلة) على الخريطة الواردة في كتاب الجغرافيا، تحت التهديد بعدم صرف هبة مخصصة لدعم شراء الكتب المدرسية في المدارس الرسمية.
السبب في كل ذلك، ببساطة، تخلي الدولة، كسلطة موثوقة، عن دورها الرقابي على المناهج الأجنبية والبكالوريات المشرّعة، لا سيما البكالوريا الفرنسية والبكالوريا الدولية والبكالوريا الإنكليزية (CGE)، وبالتالي التهاون في فرض تطبيق القوانين اللبنانية التي تحظر التعامل مع العدو الإسرائيلي.


إسرائيل بدلاً من فلسطين في امتحانات البكالوريات الفرنسية والدولية والإنكليزية

لا سلطة للمركز التربوي

في السياق، لا يتردد أكثر من مسؤول في المركز التربوي للبحوث والإنماء في القول في أكثر من مناسبة، إن المركز، الجهة المخولة وضع المناهج التربوية وطباعة الكتاب المدرسي الرسمي، معني فقط بمراقبة الكتب المدرسية التي تنتجها دور نشر لبنانية خاصة، وهو يعطي الإذن باعتمادها بعد التأكد من عدم مخالفتها للمناهج الرسمية أو إثارة النعرات الطائفية. لكن المركز، بحسب المسؤولين التربويين، ليس لديه أي سلطة على الكتب المستوردة! أي أن تربية الأولاد ملزّمة للجهات الواضعة للكتب.

حادثة فردية؟

يصر معلمون في مدرسة الليسيه فردان وضع ما حدث، الأسبوع الماضي، في خانة «الحادثة الفردية» لا أكثر ولا أقل. هم شعروا بالإهانة، كما قالوا، «فالعداء لإسرائيل موضوع غير قابل للنقاش ولا نرضى بأي مساومة على هذا الموقف، وحريصون دائماً على عدم خرقه في كل مسألة قد تصادفنا إن في الصف أو المكتبة أو على المواقع الإلكترونية المفتوحة على كل الاحتمالات، ولم يسبق أن حدث أمر مشابه على مر تاريخ المدرسة، وسيكون لنا موقف مما حصل الأسبوع المقبل (هذا الأسبوع)».
وفي الوقائع التي يرويها هؤلاء المعلمون، أن في نظام المدرسة حصصاً تدخلها معلمتا اللغة الفرنسية واللغة العربية في الوقت عينه ويجري اختيار موضوع جغرافي معين مثل الجبال أو الأنهار أو الحدود وغيرها، فتتولى معلمة اللغة الفرنسية التحدث عن الموضوع في أوروبا مثلاً، فيما تقارب معلمة اللغة العربية الموضوع في لبنان. لا يخفي المعلمون بأنها المرة الثالثة التي تطرح فيها المدرّسة المسؤولة عن الحادثة، وهي معلمة فرنسية منتدبة لثلاث سنوات، استبدال فلسطين المحتلة بإسرائيل، للنقاش على الأقل شفهياً، إذ إنّ تحضير الخريطة المتعلقة بلبنان من مسؤولية معلمة اللغة العربية. وفي كل مرة كانت معلمة العربية تتصدى بالقول إن لبنان في حالة نزاع مع إسرائيل وقوانينا لا تسمح بذلك. في المرة الثالثة، استغلت المعلمة الفرنسية فرصة غياب معلمة اللغة العربية في بداية الحصة ووزعت على التلامذة خريطة مكتوب عليها إسرائيل. ولما اعترض عدد من التلامذة بقيت المعلمة مصرة على موقفها قائلة لهم «شو انتو بتعرفوا أكثر من غوغل؟!». في هذه الأثناء، دخلت إلى الصف معلمة اللغة العربية، وعندما همّت بتوزيع الخريطة التي تتضمن فلسطين، شكا لها التلامذة ما حصل، ما أثار انزعاج المعلمة الفرنسية فخرجت من الصف غاضبة.

الأهل يرفضون التبريرات

بعض أهالي التلامذة المعنيين بالحصة أبدوا استياءهم العارم من الحادثة. لؤي غندور الذي فجّر ما حصل على مواقع التواصل الاجتماعي قال: «صحيح أننا اخترنا النظام الفرنسي لتعليم أولادنا ويمكن أن يصادفوا أموراً بعيدة عن خصوصياتنا الثقافية، لكن ممنوع اللعب بالتاريخ والجغرافيا والعداء لإسرائيل». واستغرب غندور تبرير الحادثة بالقول إن المعلمة سحبت الخريطة من «غوغل» وهي ليست موجودة في الكتاب، خصوصاً أن الورقة ألصقت بالدفتر وباتت جزءاً لا يتجزأ منه أي بمثابة الكتاب وعليها علامة تحسب آخر السنة.
توافق إحدى الأمهات بأن ما تفعله هذه المعلمة هو سلوك يومي بدليل أنها استخدمت كلمة «israel» في صف القواعد باللغة الفرنسية في تمرين تطبيقي عن درس الـ «accent trema» بوضع نقطتين فوق حرف «e». وتبدو الأم مقتنعة بأنّ إدارة المدرسة لن تلجأ إلى أي تدبير عقابي بحق المعلمة «فالفرنسيون محميون».
رنا قانصو، والدة أحد التلامذة في الصف، تقول إنّ القضية أخذت لدينا بعداً استثنائياً لكونها تزامنت مع ما تتعرض له القدس من اعتداء. تستغرب «ضبضبة» ما حصل سائلةً: «هل أتت المعلمة إلى المدرسة من المريخ، أليست على علم بالأمر المتداول عالمياً؟ أو على الأقل ألم ينتبه موظفو السكرتاريا مثلاً للأوراق التي تم تصويرها في المدرسة؟».

ليست مؤامرة؟

إحدى المعلمات التي رفضت الإفصاح عن اسمها أوضحت «أن أبناءنا الذين يدرسون المناهج الأجنبية قد يتعرضون في أي وقت لهذا النوع من المعلومات والمعارف في وقت لا نسلّحهم بالمعلومات الكافية ليحاججوا بها، وهم لا يأخذون شيئاً عن تاريخ بلدهم والمنطقة العربية، أو على الأقل يجري ضغط البرنامج لمصلحة المواد التي تخدم شهادة البكالوريا الفرنسية أو البكالوريا الدولية، بحجة أن البرنامج اللبناني ينطوي على حشو وطرق غير تربوية وليس على المستوى العلمي المطلوب».
تروي كيف أن ابنها الذي يدرس المنهج الأجنبي يقول لها إنّ المحرقة اليهودية طالت أعداداً أكبر من يهود أوروبا وهم ظُلموا أكثر من الفلسطينيين، ما جعلها تحضر كتب غسان كنفاني عن المجازر الإسرائيلية «وأفتح نقاشات طويلة في البيت حتى اقتنع بما فعله الاسرائيليون بالفلسطينيين».
تقول المعلمة بثقة: «لنكن واقعيين وموضوعيين. ما يحصل ليس مؤامرة بالتأكيد. البعثة العلمانية الفرنسية تلتزم فعلاً القوانين اللبنانية». لكنها تسأل: «هل ننتظر من جمعية فرنسية غير مسيسة أن تقاتل من أجل حقوقنا؟ هل نتوقع من مدير أو موظف أو أستاذ فرنسي أن يضع لنا ملامح المتعلم وأهداف وكفايات التربية؟ أين قوانينا؟ لماذا لا نراقب تطبيقها؟». وترى «أننا مقصرون بحق أنفسنا، فالدولة لا تضع شروطاً وقيوداً على تعليم التاريخ والجغرافيا ولا تراقب الكتب المستوردة. وليس هناك موقف اجتماعي من هذه القضية أو رد فعل أو مناقشة للموضوع»، لافتة إلى أنّ «الفكر القائم على الجدل والنقاش هو فكر منفتح على كل الاحتمالات، وما ينقصنا هو وضع الأطر التي تناسب مجتمعنا».

قرار عربي مشترك

بالنسبة إلى سماح ادريس، العضو المؤسِّس في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، الحل يكون بأن يتخذ أكثر من نظام عربي قراراً مشتركاً بعدم استيراد هذه الكتب «ما أعرفه أن سوريا تلغي أي صفقة كتب سواء مدرسية أو غير مدرسية تتضمن تطبيعاً مع العدو الإسرائيلي». وفي انتظار هذا الحل الجذري وتغيير الكتب، ثمة إجراءات مرحلية، بحسب إدريس، تقضي بأن يعمم مديرو المدارس على معلمي الصفوف ضرورة الالتزام بالقوانين اللبنانية وعدم استخدام أي محتوى تطبيعي. لا يستبعد إدريس أن تقول لنا الكتب المعتمدة في النظام التعليمي الأميركي مثلاً بعد سنة أو سنتين بأن القدس هي عاصمة لإسرائيل. ويطالب الأهل بتنظيم عرائض ضد هذه الحوادث.




إدارة المدرسة: نحترم القوانين

أكد مدير مدرسة الليسيه فردان إريك كروب أن «المدرسة سترفع تقريراً إلى وزارة التربية يتضمن كل الإجراءات التي ستتخذها إزاء الحادثة». وأكد أن «مؤسستنا تدرس هذه المسلمات إلى التلامذة، وتحترم التعميم الذي وجهته الوزارة والذي يمنع اعتماد كلمة إسرائيل بدلاً من فلسطين في أي مستند أو كتاب».





وزارة التربية: لمعاقبة المخالفين



يتطلع المواطنون إلى أن تنفذ وزارة التربية تعميمها المتعلق باتخاذ الإجراءات القانونية والعقوبات المناسبة بحق الثانويات والمدارس الخاصة والرسمية التي قد تعتمد كتباً مدرسية تتضمن كلمة «إسرائيل» بدلاً من «فلسطين»، وأن تشرف على التقيد بما تنص عليه القوانين اللبنانية في موضوع التعامل مع العدو الإسرائيلي. وفي حيثيات التعميم الذي أصدره الوزير مروان حمادة (الصورة)، في 24 تشرين الأول الماضي، أي قبل شهر ونيف من حادثة الليسيه فردان، أنّ «بعض شركات مستوردي الكتب في لبنان تقوم باستيراد كتب تطبع في الخارج (تاريخ، جغرافيا، الفروض الصيفية،...) لجميع مراحل التعليم العام ما قبل الجامعي، وأن العديد من المدارس اللبنانية قد تعتمد مثل هذه الكتب لتحضير طلابها للبكالوريات الأجنبية حيث يكون هؤلاء الطلاب مضطرين للإجابة على الأسئلة خلال هذه الامتحانات وفقاً لما قد ورد في هذه الكتب حرفياً».
في حادثة الليسيه فردان، كلف رئيس مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية عماد الأشقر إجراء تحقيق في القضية ورفع تقرير مفصل إليه لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وبعد التحقيق تبين، بحسب الوزير، أن الخريطة المشار إليها مسحوبة عن موقع «غوغل» على الإنترنت وليست مدرجة أو معتمدة في كتاب من كتب المدرسة، وقد تم سحب الأوراق التي تحمل الخريطة من التلاميذ.







الأمن العام يرفع مسؤوليته



ينفي العميد نبيل حنون، مدير مكتب الإعلام في المديرية العامة للأمن العام، أن تكون المديرية قادرة على مراقبة عشرات آلاف النسخ من الكتب المستوردة التي تدخل إلى لبنان. «وما يحصل أننا نقرأ البيان الجمركي ونتوقف عند العناوين الملفتة للنظر».
حنون يوضح أن المديرية تلقت شكاوى تتعلق بدخول كتب تتضمن كلمة إسرائيل بدلاً من فلسطين، «وعندما تحققنا من الموضوع قيل لنا إن هذه الكتب تعود إلى صفوف البكالوريا الفرنسية وأن الامتحانات تصحح في السفارة الفرنسية والتلميذ مجبر على الإجابة كما هو وارد في الكتاب وإلا يخسر العلامة». يومها، تواصلت المديرية مع نقابة مستوردي الكتب وجرى الاتفاق على كتابة العبارة الآتية على هذه الكتب: «إن مضمون هذا الكتاب هو من مسؤولية دار النشر الأجنبي وتابع لمنهاج الدولة التي نشر فيها، لذلك فإن نقابة مستوردي الكتب في لبنان غير مسؤولة عن محتوى هذا الكتاب وفقاً للقوانين اللبنانية التي لا تعترف بالكيان الإسرائيلي».

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]