ما فعله دونالد ترامب، أمس، قد يكون الفرصة الأنسب لتثبيت الموقف من أصل المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يحمل اسم «إسرائيل». أميركا التي عادت فقالت لنا أمس، بفجور وفجاجة، وضد إرادة جزء من حلفائها وشركائها في المشروع الاستعماري، ما تقوله لنا على امتداد الحقبات والعهود، بأنّها مصدر قهرنا وبؤسنا وظلمنا.
أي أننا لن نسترجع شبراً من فلسطين إلا إذا أعلنّا حرباً شاملة عليها، وإذا عملنا على تحويل حياتها إلى جحيم، ورايتها إلى شعار العار، وجيشها إلى وحش متنقل في العالم. أما آنَ أن يعي العرب أن أميركا، باختصار، هي أصل البلاء وأصل الشر؟ أما إسرائيل، فلنتركها جانباً، إذ مهما قيل عن «قوّتها وتفوقها وتحضّرها»، فليست سوى مستعمرة أميركية – بريطانية، لا يمكن أن تعيش يوماً واحداً بلا حماية الغرب، ورعايته، ودعمه الأعمى.
هذا الغرب الاستعماري، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركيّة، هو علّة وجود الكيان الغاصب، وكل ما يبذله من جهود، يمدّد قسراً وجود إسرائيل الاصطناعي، المخالف للحق وللمنطق، ولحركة التاريخ، في انتظار أن تنتهي إلى حتفها الأكيد.

لم يعد أمامنا سوى رفع الشعار
والقبضات والهتاف الواحد: الموت لأمريكا!


هذا هو الدرس الذي يلقنه اليوم للشعوب العربيّة، مشعل الحرائق المعتوه في البيت الأبيض. بعض الحكام العرب الذين لم يفهموا منذ سبعين عاماً، أن «إسرائيل» هذه، ليست شيئاً من دون حماية الغرب… ولن يكون لها وجود من دون غطاء أميركا ودعمها. «إسرائيل» هذه، لم تعد مصدر الخوف والقلق، بعد تحطّم أسطورتها العسكريّة على صخرة المقاومة الشعبيّة في لبنان وفلسطين… وكل ما يمكن أن تقوم به، وحدها، لا يستطيع أن يبقيها، ولو لساعة واحدة، على قيد الحياة.
اليوم، في اللحظة التي يطلع بيننا، نحن العرب، من يعلن الخضوع الكامل لأميركا، تحت راية «سلام» ليس إلا تبعيّة واستسلاماً… وفي اللحظة التي يقف فيها «العالم الحرّ»، عاجزاً ومكتوف اليدين، أمام جنون الكاوبوي، لم يعد أمامنا سوى أن ننتفض لكرامتنا، أن نذهب إلى معالجة جذر المشكلة لا عوارضها. لم يعد أمامنا من خيار، سوى أن نرفع الشعار والصوت والقبضات والهتاف الواحد: «الموت لأمريكا»! أن نعلن الحرب الشاملة على أميركا ومصالحها في كل مكان.
كان لا بد من هذه الخطوة، وإن كانت متوقّعة من زمن غير قصير، هذه الخطوة العالية الرمزيّة بالنسبة إلى العرب والمسلمين، البالغة الخطورة والفظاعة، التي نعتها الرئيس نبيه برّي بـ «وعد بلفور جديد»… كان لا بدّ منها لنتأكد من أن معركتنا الحقيقية هي مع أميركا قبل إسرائيل. أميركا التي تأسست مثل إسرائيل على المجزرة، وعلى إبادة حضارة كاملة لتبني على أنقاضها «جنّة الحريّة». أميركا التي لم تزدهر يوماً إلا عبر استغلال العالم، والشعوب المستضعفة، وعبر الحروب الاستعماريّة. أميركا التي غطّت وتغطّي على كل جرائم إسرائيل، ومجازرها، وسياساتها العنصريّة والاستيطانيّة… لا يجدي أن نحارب إسرائيل ونتركها. وربما كان بعض العرب يحتاج إلى هذا الدرس الإضافي، بل قل هذه الصدمة، هذا الزلزال، إهداء القدس إلى الغزاة، حتى يعرف أن الرهان على أميركا ضرب من ضروب العبث أو الانتحار أو الخيانة الواعية. اليوم تحديداً، بات على كل العرب أن يختاروا: فإما أميركا وإما القدس!
إنّ من يختار القدس، عليه أن يعلم أن المعركة تتطلب التحالف مع كل من يقف في مواجهة أميركا. وعليه أن يعي، أن تحريض الناس على أميركا، يعني دعوته إلى معارضتها ومقاتلتها والانتفاض عليها بكل الوسائل. ورفض كل ما يأتي منها، حتى ولو كان مغلفاً بأوهام الحل، أو الترياق المنشود.
إنّ من يختار الانتماء إلى القدس والدفاع عنها، عليه العمل من دون توقف، وبكل ما أوتي من قوة، لقتل كل جندي اميركي خارج حدود بلاده، ولاحتلال سفارات أميركا في كل العالم أو إحراقها وتدميرها. لنطرد من بلادنا كل موظف أميركي، دبلوماسي أو سياسي أو خلافه. وكل من يتقاضى راتباً من الحكومة الأميركية. لنواجه ديموقراطيتهم الزائفة، نقطع السبل أمام كل مشاريع مرتزقتهم المنتشرين في بلادنا والعالم، في خدمة أجندات مشبوهة لا تخدم إلا إسرائيل، خلف شعارات مزيّفة عن «حقوق الإنسان والتنمية والتقدم».
إنّ من يختار القدس، عليه أن يختار زمن المقاومة الشاملة، التي تلزمنا بعملية ليست بسيطة، لكنها ممكنة، من أجل التخلي عن كل ما له صلة بهم. ومن يختار القدس، عليه العمل على إشعار الشعب الأميركي بأن مسؤوليته باتت عظيمة، وأنه سيكون من يدفع ثمن سياسات من يختارهم لحكم بلاده.
صحيح أنها عملية شاقة وطويلة، لكنها مسار إلزامي لكل من يريد التخلص من كابوس إسرائيل، ومن خدمها الأذلاء المتربّعين على عروش السلطة في بلادنا، مغتصبي الشرعية والعدالة والحريّة. وما فعله حكام ممالك القهر في الخليج العربي، وقبلهم حكومات في المشرق وشمالي إفريقيا، لم يكن ممكناً لولا صمتنا عن تآمرهم، ولولا خنوع بعضنا، وقبول هذا البعض، بل الترويج، لثقافة الاستسلام.
اليوم، يفتح دونالد ترامب الباب أمام فرصة جديدة لتيار المقاومة في فلسطين والعالم العربي. «يساعدنا» مشكوراً على إعادة توجيه الأنظار صوب الحقيقة القاسية، وهي أن نفوذ أميركا المباشر أو من خلال إسرائيل، هو الهدف الوحيد المفترضة مواجهته، وقلب الطاولة على رؤوس المتعاونين معه.