دخلت الصف. كان طويل القامة، جهور الصوت، مرتدياً سترة سوداء. كان يشرح ولادة المسرح مع الاغريق! يومها، لم أعرف أنه سيكون بالنسبة إليّ وعلى مدى ٢٥ عاماً، أباً روحياً، أخاً دون مقابل، زميلاً غيوراً وأقرب صديق إلى قلبي. دخلت المسرح. كان واسع الثقافة، لاذع النقد، مرتدياً لباس المعرفة.

دخلت صالة المؤتمرات، كان يعتلي المنبر كما لم يعتله رجل. صوته مدوٍّ، يشاكس أخصامه، يناقض أصدقاءه، يحارب نفسه...
معرفته دون حدود، يتكلم أربع لغات بكل طلاقة، يعرف عن المسرح ما لا يعرفه أي مؤرخ أو مسرحي. كان يسرد، يشرح، يحلل، وكل ذلك بسحر واحتراف مطلقين.
جلال الكاتب، رائد المسرح السياسي في العالم العربي، لديه الكثير من الكتابات والتحاليل والمسرحيات... كان يعشق القلم والقلم يعشقه... ابن الفكر الماركسي، اعتنق الكلمة الحرة وقاتل من أجل الحريات، دافع عن معتقداته اليسارية، وعن حق غيره بالتعبير عن افكار مناقضة.
«جحا في القرى الامامية»، المسرحية التي أشعلت خشبة المسرح البيروتي مع الممثل الراحل نبيه ابو الحسن، كانت انطلاقة جلال خوري على طريق جلجلة المسرح اللاذع، الساخر، الكوميدي والسياسي بامتياز. كان يكرر أن كل انواع المسرح سياسية. أكمل الطريق مع «الرفيق سجعان»، ولعبها في المانيا الشرقية حينها، حيث لاقت نجاحاً كبيراً، وأكمل مسيرة طويلة في الكتابة، معبراً عن هواجس المنطقة ومخاوفه الشخصية. حمل راية القضية الفلسطينية وكافح ضد الفكر الصهيوني في أكبر محافل العالم، الى أن التقى اللايدي ڤايغل، زوجة الكبير بيرتولد بريخت ومثل دول العالم الثالث وحمل قضية فلسطين على كتفيه دون أن ينسى محبته لوطنه ولحي الجميزة حيث ولد وترعرع على بعد أمتار من «كنيسة السانتا» حيث قرأ مارون نقاش وزملاؤه أول عرض مسرحي مترجم لـ «البخيل» من موليير.
احب الصفرا وأهلها، الضيعة الكسروانية الساحلية التي كانت ملاذاً لالتقاء اقاربه.
عشق زملاءه وأصدقاءه وأعطاهم بلا مقابل. موسوعاته وكتبه وموسيقاه كانت تتوزع عليهم دون أي سؤال، فكان يحب العطاء بدون مقابل.
أما عشقه الاكبر فكان لطلابه الجامعيين، الذين أحبوه واحترموه، فهو الذي أسس القسم السمعي بصري والمسرحي في «جامعة القديس يوسف»، الى جانب ايمي بولس، وكانوا يخاطرون بحياتهم ليؤازروا طلابهم عندما كانت الجامعة معلماً أساسياً من معالم خط التماس وعرضة للقنص والقصف.
جلال حمل راية برتولد بريخت، واخراجه كان مبنياً على التغريب، دون أن يخفي تقنيته ويعترف بمصدر وحيه وابداعه المسرحي. عمل مع الكثير من المشاهير من الممثلين والسياسيين على تقنية الصوت والالقاء والتعبير. دافع عن كتابات بريخت وأعماله وعن مسرحيات شكسبير كأنها كانت له، كأن بريخت وشكسبير كانا صديقين يعيشان معه في الظل. كان يغني ويروي ويلقي العديد من الاغاني والاشعار حتى يوم ذهابه. فالعطاء له كان من دون أي مقابل، العطاء كان بالنسبة له فرحاً وسعادة....
في آخر أعماله، انتقل من الفكر الماركسي والشيوعية وثورة العمال البروليتارية الى البحث عن الذات. كتب مسرحيات على نمط مسرح «النو» الياباني، مبنية على حبكة كوميدية، بمشاركة منشدة وموسيقيين. تطرق في هذه المسرحيات الى هواجس أبعد من ثورة ١٩١٧، فبحث عن وجه المسيح من خلال روحانيات وطقوسيات الشرق الادنى، فكونه يوغي من الطراز الاول، انغمس في البوذية والهندوسية، من قبر يوز عاسوف في الكاشمير الى اسطورة اخناتون وتحاليل فرويد. لم يأبه ما إذا كان جمهوره فهمه من القراءة الأولى، فجلال كان يكتب لما بعد ذهابه oeuvre posthume. مات وكان ما زال يكتب، ويتخبط بين افكاره السياسية ونفحته الروحانية. خشي قلمه كثيرون، ومن لم يخشه، لم يفهم ما كتب. جلال خوري، رأس الهرم في العصر الذهبي، ادخل كل يوم الى مسرح ذاكرتي ومحبتي، وأجده مرتدياً سترته السوداء، يحاضر... فكما قال بوذا، نجح في حياته وفي مماته... كنت أكرر له دائماً: «ما بخاف عليك.... رجال متلك ما بموتوا». هو الآن الى جانب أصدقاء العمر، الى جانب فريد سلمان، بيرج فازليان، يعقوب الشدراوي، نبيه ابو الحسن، الى جانب بريخت يقاتل من وراء الماوراء، الى جانب شكسبير وبيسكاتور، يرقد مع راسين ولوركا وسوفوكليس.
ادخل الى المسرح.... ولا ارى أي فراغ... فبين «مسرح مونو» الذي افتتحته عندما ارخت تاريخ مسرح لبنان بـ «رزق الله يا بيروت» الى «مسرح الجميزة» حيث اختتمت اعمالك الاخراجية باعادة «فخامة الرئيس»، أسمع صوتك، أسمع صوت كاميرا «النيكون» التي تلتقط قطرات عرق الممثلين، أرى يديك الطويلتين وأخشى عينك الناقدة التي تلاحقني بدون رحمة.... وبكل محبة.
المسرح لن يفتقدك. المسرح كسبك