في حوارنا معه، يقول الروائي اللبناني حسن داوود (١٩٥١) «كأني ما زلت ساكناً هناك، في الطبقة الخامسة من «بناية ماتيلد». هي أزيلت طبعاً، وقام بدلاً منها بناء يزيد عن 11 طابقاً. أنا ما زلت هناك، أعوّض عن زوالها أحياناً برؤيتها في المنام، واسعة فسيحة وأمامها حديقة كما لو كانت في طابق أرضي». سيحضر حسن داوود في معرض الكتاب بروايته الجديدة «في أثر غيمة» (دار الساقي ـ 2017).
هنا، يتابع هندسة العمارة الروائية الشديدة الاتقان والأقرب في صنعها الى تلك الماندالا أو المنمنمات التي ابتدأها بعمله البديع «بناية ماتيلد» (١٩٨٣) واستمرت تطبع أعماله الأخرى من «سنة الأوتوماتيك» (١٩٩٦) و«غناء البطريق» (١٩٩٨) الى «أيام زائدة» (٢٠٠٠) و«مئة وثمانون غروباً» الفائزة بـ «جائزة المتوسط الإيطالية» عام ٢٠٠٩، الى «لا طريق الى الجنة» التي توجت بـ «جائزة نجيب محفوظ» عام ٢٠١٥.
تدور أحداث «في أثر غيمة» حول رحلة نهرية يقوم بها رجل متقاعد ظناً منه أن إقامته في الباخرة ستتيح له عزلة هي من الشروط الممكنة للكتابة. لا تجري الأمور بحسب ما هو مخطط لها. ها هو البطل يُباغَت بتجربة غرامية تضعه في منطقة وسطى من التردد في الاستمرار فيها أو الإعراض عنها. الرواية تجربة عن آخرين أيضاً بينهم رجل قزم عاشق لامرأة في علاقة تبدو محكومة بالفشل. هي رواية عن الحب والنقصان وفرص الحب القليلة. للوهلة الأولى، تبدو أنّها لا تعتمد على أي شيء خارجي، بخلاف ما تعتمده الروايات من حادثة مشهورة، أو حرب جارية، أو نبش في معين منجم الذكريات الذي لا ينضب. رواية داوود أشبه ببناء أدبي محض، يتبدى فيه حس كاتبها في هندسة التفاصيل كاملة، من بنية الباخرة كاملة في غرفها ومقدمتها الى الكافيتيريا الموجودة داخلها... باخرة مهولة من صنع الخيال وحده، بعكس «بناية ماتيلد» التي سكنته وسكنها ككيان معماري قائم قبل زواله الى الأبد. على غرار المرأة المشوهة في «ماكياج خفيف لهذه الليلة» (٢٠٠٣) والشاب المعوق في «غناء البطريق»، يحضر القزم في اشارة ذكية للخيال الروائي الخصب الذي يستثيره ما ألمَّ بالأجساد من تشوهات ونقصان في البنيان الجسدي والذهني. كأن هذه التشوهات تعطي أبطالها فرصة لعيش حيرتها وفراغها وتناقضاتها في زمن روائي بإيقاع يضبطه داوود بأسلوبه الذي يشبه حياكة السجاد، وفي التحكم بثنائي الصورة والحركة إلى درجة الوصول الى حالة من «اللافعل» والسكون في سلوك أبطاله. في روايته الجديدة، يتابع داوود لعبته المفضلة في تأليف حيوات داخلية كاملة لأبطاله، من شعورهم بالعجز الى شهواتهم العصية على الإشباع الا في الأحلام. الروائي الذي صرح مرة إنه يبدأ في كل رواية جديدة مما فاته أن يستدركه في عمل سابق، سيكون له دائماً شيء ليرويه لقرائه ومتابعيه، مستحضراً عبارة همنغواي الشهيرة التي يشبّه فيها الكاتب بالبئر، أنى قصدتها تعثر على الماء.


«في أثر غيمة» لحسن داوود ــ دار الساقي ـ 2017