قد ينطبق هذا على أي إنسان. أما بالنسبة إلى الفنان، فهو ضرورة لازمة: فمكانته تتحدد بالأساس حين يكون تعبيراً دالاً على زمانه وواقعه، وحين يوضع بإزاء أقرانه ومجايليه، ويتضح مدى تأثيره فيهم، ومن ثم تأثيره في محيطه الاجتماعي، وفي دوائر أبعد مدى في ثقافته، وصولاً إلى الدائرة الأوسع التي تشمل المكان والزمان المعيش والمستقبلي.
في ما يتعلق بالتراتبية، تخطت شادية حواجز رمزية ذات وقع سحري، فتجاوز عدد أفلامها بوابة المئة الثانية، وعاشت طويلاً نجمة في مجال الغناء والتمثيل. عمّرت فنياً، وصعدت إلى النجومية بلا تعجل ولا ضغينة، وانصرفت من على خشبة المسرح بأداء لافت للغاية، ثم احتجبت عن الأضواء بقليل من الصخب، واستعاد كثيرون أطيافها وهي ما زالت حاضرة الوعي، قادرة على التلمس والتمييز بين التقدير والحب الصادق والمبالغات المناسباتية.
منحتها الصحافة الفنية لقب «الدلوعة»، وكانت طريقة تصفيفها لشعرها واختياراتها لأزيائها موضةً تقلد بقبول اجتماعي واسع، فلطالما سُمع بين مختلف الطبقات الاجتماعية تعبير «قُصة شادية»، اللقب والنموذج الذي تموضعت فيهما شادية لسنوات تتضح معانيه إذ يوضع بإزاء: سيدة الشاشة، وسمراء السينما العربية، وعذراء الشاشة، وسندريلا، وهي ألقاب: فاتن حمامة، ومديحة يسري، وماجدة، وسعاد حسني على التوالي.
مع فيلم «زقاق المدق» (1963) ثبّتت وجودها المتميز هذا: لون من الغناء خاص، وأداء تمثيلي باهر في بعض المشاهد، ومقدرة على فهم واستيعاب الشخصية ــ حميدة ــ والتعبير عنها. في تلك الأيام، كانت شادية قد نالت بجهد متواصل ــ البداية في عام 1947 ــ مكانتها تلك، وتبلورت شخصيتها الفنية نهائياً.

مرحلة البداية طالت قليلاً، وتميزت بتذبذب لافت بين الصعود والتراجع، ليس فقط في أفيشات الأفلام وحجم الدور وتأثيره، بل في نوعية الأفلام ومستواها، فراوحت الاختيارات بين الميلودراما ــ النوع البارز والسائد؛ وربما في فترات، الطاغي في السينما المصرية ــ وبين الكوميديا والرومانسية والاستعراض والغناء، ثم بدأت تتروى وتدقق، وربما تطلب نوعيات وصياغات محددة.
حين نضع شادية إزاء ممثلات السينما النجمات من جيلها ــ هناك ممثلات رائعات، لكنهن لم يصلن إلى النجومية ــ سناء جميل وسميحة أيوب أبرز الأمثلة ــ ونقيم مكانتها بينهن، سيكون علينا أن ننحي خصوصيتها باعتبارها مغنية، ولأنه يصعب تتبع كل مراحلهن الفنية، فسنكتفي هنا بموضوعة واحدة، وفيلم واحد، وسيكون كافياً لمقاربة يمتزج فيها الفن بالواقع الاجتماعي والسياسي.
سنختار أفلام: «الأفوكاتو مديحة» (1950)، «الأستاذة فاطمة» (1952)، «أنا حرة» (1959)، «للرجال فقط» (1964). أفلام موضوعها الرئيسي عمل المرأة وشروطه الاجتماعية، ولعبت الدور الرئيسي فيها: مديحة يسري، فاتن حمامة، لبنى عبد العزيز، سعاد حسني ونادية لطفي. وسنضع تلك الأفلام والممثلات، إزاء فيلم «مراتي مدير عام» (1966) الذي لعبت بطولته شادية.
«الأفوكاتو مديحة» و«الأستاذة فاطمة» على تقاربهما الزمني، لكنهما تعبيران متعارضان نسبياً. ينزع الأول إلى التلون باللون الفني لصانعه ــ يوسف وهبي ــ ويمتح من الميلودارما والوعظية الذكورية والطبقية الزاعقة، يخلص إلى أن شروط عمل المرأة هي قبولها بأنها «مهيضة الجناح» تحتاج أن يرشدها ويرعاها، وربما أن يؤدبها، الذكر، سواء أكان أخاً أم زوجاً.
أما «الأستاذة فاطمة»، فهي النسخة الأكثر احترافية ـــ ونكاد لجودتها أن نقول أصالة ـــ من «روميو وجوليت»، ونجرؤ على استخدام «أصالة» لأن صناع الفيلم قلبوا التراجيديا إلى كوميديا أولاً، وجعلوا الحب في الخلفية ثانياً، وأوجدوا موضوعة عمل المرأة ثالثاً، لكن شكسبير كان حاضراً في البناء الدرامي وفي أبعاد وصراعات شخصيات الفيلم وخطوطه الدارمية الرئيسية. هنا تختفي الوعظية، وتتنحى الذكورية عن الصدارة خطوات، لكن التصالحية تظل حاضرة، فلا يتخلى صناع الفيلم عن مقولة «الوظيفة الأهم للمرأة هي البيت وراحة الزوج». في «أنا حرة»، يتقدم الوعظ ليكون مزيجاً من الزعيق السياسي واللامعقولية الدرامية، وفي «للرجال فقط» تبهت المسألة النسوية وتقترب الكوميديا من «الفارص» Farce.
«مراتي مدير عام» هو الصياغة الأكثر تعبيراً عن «خطاب يوليو النسوي» بتوازناته القلقة. فنحن أمام حسم لعمل المرأة ودورها. هي عاملة أولاً، ثم زوجة، لكننا نتابع البحث عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه المرأة في عملها أولاً، وعن كيفية تأقلم الزوج والمجتمع مع اتساع هذا المدى، ثانياً.
الفيلم جاء بعد سنتين من تعيين أول وزيرة في الحكومة المصرية ـــ الدكتورة حكمت أبو زيد ـــ وهي ثاني عربية تتولى الوزارة. يصعب على الكثير من المصريين أن يصدقوا أن العراقية الدكتورة نزيهة الدليمي هي أول امرأة عربية تتولى الوزارة (1959)، كذلك يصعب عليهم أن يصدقوا أن التلفزيون العراقي أسبق من المصري. وربما كانت التساؤلات الاجتماعية المتعلقة ببعد المدى الذي وصلته المرأة في عملها، حاضراً في أذهان صناع الفيلم: كاتب القصة ـــ عبد الحميد جودة السحار ـــ معروف بأنه كاتب إسلامي محافظ، وله في تاريخ السينما فيلمان بارزان: «أم العروسة» و«الحفيد»، خطابهما المُخفى، بصورة جيدة، دعوة لمعارضة سياسات الدولة المعلنة الداعية إلى تحديد النسل، وتمجيد في الأسرة الكبيرة العدد التي تفلح في تحدي الصعاب بتماسكها.

«مراتي مدير عام» محاولة توفيقية بين توجهات الدولة وقيم ذكورية سائدة

لكنه يقدم في «مراتي مدير عام» محاولة توفيقية بين توجهات الدولة التي عينت وزيرة في الحكومة، وبين قيم ذكورية تعاني من صعوبة التأقلم مع تلك التوجهات، وأحكام فقهية تضع شروطاً صارمة في تفاصيل صغيرة، فلم يكن متصوراً أبداً أن يصرح أحد بأسئلة من نوعية: «هل صوت المرأة عورة؟» في زمن «تحالف قوى الشعب العامل». لكن سؤال «هل ينقض مصافحة المرأة الوضوء أم لا؟» ظل خيطاً درامياً طوال الفيلم حسم في النهاية بموقف يرى أن الدين والفقه فيهما فسحة تتسع لآراء فقيه متمايزة ترى أن المصافحة لا تنقض الوضوء. وهكذا تمت الصياغة: عمل المرأة أصبح واقعاً اجتماعياً، لكن المدى الذي ستصل إليه متوقف على مزيد من الرحابة الذكورية وتوفيق بين خيارات الدولة وتوجهاتها والمجتمع وميراثه الثقافي والديني.
* مخرج وناقد مسرحي مصري