هذا لا يمكن أن يحدث إلا في لبنان، بلد الغرائب والعجائب: في أيار (مايو) 2017 سحبت السلطات اللبنانيّة الترخيص بعرض فيلم «المرأة الخارقة» (إخراج باتي جينكينز) الذي تشارك في بطولته الممثلة الاسرائيليّة غال غادوت، وذلك استناداً إلى مذكرة صادرة عن مكتب المقاطعة في الجامعة العربية، وبعد مطالبات شعبيّة واعلاميّة. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 ـــ أي بعد خمسة أشهر فقط، لا خمسة عقود! ـــ برمجت الصالات اللبنانيّة، وكأن شيئاً لم يكن، فيلماً جديداً ضمن سلسلة المرأة الخارقة.
هذا الفيلم هو «رابطة العدالة» (اخراج زاك سنايدر) الذي تشارك في بطولته غادوت، «صديقتنا» الاسرائيليّة… ما غيرها! العمى، كيف أمكن هذا؟ هناك موزّع لبناني غير آبه بموقف المديريّة العامة للأمن العام، وبقرار وزارة الخارجيّة، اشترى حقوق فيلم غال غادوت الجديد من دون أن يرفّ له جفن… وهناك أصحاب صالات برمجوه في منتهى الطبيعيّة. كأن الدولة اللبنانيّة غير موجودة، وقراراتها لا تستحق الاكتراث، ولا تلزم أحداً باحترامها. وجميع هؤلاء آخر همّهم إسرائيل، وكونها عدوّنا المطلق. بل إن بينهم من صرّح لنا بأنّه غير آبه بالقضيّة، ويساوي «الإسرائيلي» بالفلسطيني! حتّى أنّه اشترط منع «الأفلام الإيرانيّة» قبل أن نمنع فيلماً إسرائيليّاً. يحيا البزنس… تحيا السيادة!
هل يواجه لبنان لعنة الـ Wonder Woman، وليس من هو أقدر منها على تجسيد أكذوبة التفوّق الاسرائيلي؟ أطرد غال غادوت من الباب، تعود من الشبّاك. في وطن العسل والبخور، هناك ناس يستخفّون بكرامة الرأي العام، ويحتقرون قرارات السلطة اللبنانيّة، ويحاولون كاللصوص، تمرير فيلم تفوح منه رائحة نتنة، يعرفون أن تسويقه ليس مشرّفاً. ما الفرق بين هؤلاء وتجار الأطعمة أو الأدوية الفاسدة؟ أنّهم يرتكبون فعلتهم، تحت راية «الانفتاح والحرية» تارة، و«المصلحة الاقتصاديّة» طوراً… لكن بعد اليوم بات من حقّنا أن نشكك في النوايا ونقول: المروّجون لغادوت يخدمون المشروع التطبيعي مع العدو الصهيوني، بشكل مباشر أو غير مباشر، مقصود أم غير مقصود. ولا شك في أن «أصحاب المصالح» في هذا الملف، يتمتّعون للأسف بحماية جماعات ضغط في السلطة، وبدعم من بعض بارونات النظام المافيوي الطائفي الذي هو أصل كل بلاء.
فيلم غادوت السابق، «المرأة الخارقة»، أثار في حينه جدالاً واسعاً في بيروت. وكسرت وزارة الداخليّة آنذاك قرار «لجنة الرقابة» التي كانت قد ارتأت منحه تأشيرة العرض. وهذه الأخيرة ـــ بمعزل عن ضرورة حلّها، وإلغاء الرقابة المسبقة على السينما والمسرح من أساسها ـــ تعمل باستنسابيّة مذهلة، وحسب معايير غامضة، فضفاضة، اعتباطيّة، تفتقر إلى التماسك (نمنع «لي قبور في هذه الأرض»، فيلم رين متري الممتاز فنياً، والشجاع فكريّاً، والعادل سياسيّاً، لأنّه «يهدد السلم الأهلي» (!)… أما زياد دويري، أوّل سينمائي لبناني سبح قبل ٦ سنوات في مجرور التطبيع الآسن وما زال يفتخر بذلك، فنجيز فيلمه الأخير «القضية رقم 23» رغم أنّه يتلاعب بذاكرة الحرب الأهليّة، ويتاجر بجراحها، ويحرّض على الفتنة بإمتياز). لننتظر اجتماع لجنة الرقابة العتيدة غداً الثلاثاء، فنرَ كيف عساها تحسم مصير «رابطة العدالة» الذي وجّهت «حملة المقاطعة» بشأنه أكثر من كتاب إلى مكتب المقاطعة في وزارة الاقتصاد، ومكتب الاعلام في المديرية العامة للأمن العام.
فيلم غادوت الجديد، كان أُعلن عن نزوله إلى الصالات في 17 الجاري، ثم أُرجئَ اطلاقُه حتى 30 تشرين الثاني، أي هذا الخميس. الغريب أن «رابطة العدالة» لم تُمهَّد له بأية حملة ترويج، والسبب باعتراف أحد مسؤولي شبكة العرض: «كي لا نلفت نظركم في «الأخبار»، ونلفت نظر حملة المقاطعة»! يا سلام على «التاجر الفينيقي» الذي يريد أن يربح على حساب مصالحنا الوطنيّة، وأن يسوّق بضاعته كاللصوص والمهرّبين، على غفلة من الرأي العام، وذلك باسم «الازدهار»، و«حق المواطنين في مشاهدة ما يريدون»!
كنّا نظن أن الجدل حول غادوت انتهى قبل خمسة أشهر، فإذا بنا نعود إلى نقطة الصفر. إننا نطالب وزير الداخليّة نهاد المشنوق، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بتحمّل مسؤوليتهما وسحب «رابطة العدالة» من الصالات قبل أن يدنّس شاشاتنا ويسوّس ضمائرنا، ويسجّل اختراقاً إسرائيليّاً جديداً للوعي اللبناني والثقافة اللبنانيّة. هل نذكّر للمرّة الألف بأن غال غادوت المجنّدة الإسرائيليّة السابقة، انتخبت «ملكة جمال إسرائيل» في العام 2004، أي أنّ صورتها تتماهى مع الكيان الغاصب بما لا يرقى إليه الشك؟… هل نذكّر بمواقفها «المحوربة» دعماً لجيش الغزاة في عدوانه الهمجي على غزّة في العام 2014؟
من المبكر، ربّما، استخلاص دروس الزلزال الذي يعيشه الوسط الثقافي والفني والاعلامي في لبنان منذ أربعة أيام. لكن الأمر المؤكّد أن ما قبل قضيّة زياد عيتاني، ليس كما بعدها، في حال ثبّتت عليه المحكمة تهمة العمالة الفظيعة. إن الثقافة، كما نردد منذ سنوات من دون أن نلاقي آذاناً مصغية، مجال صراع حيوي واستراتيجي يوازي في خطورته المواجهة العسكريّة. فهل نسمح بتحويل الابداع والمبدعين إلى حصان طروادة لاختراق قلعة الوعي الوطني؟ نعرف اليوم، بالدليل الحسّي، أن العدو يشتغل بطريقة منهجيّة على تعطيل وعينا، وتشويش رؤيتنا، واستمالة نخبنا. ويضع الخطط، ويجنّد العملاء من بيننا. الهدف الحيوي للكيان الغاصب، هو استدراج الرأي العام، عن طريق الثقافة والفن والنضال الاجتماعي، إلى غسل جرائمه وأنسنته، والتنازل له عن الحقوق الشرعيّة، تحت شعار السلام والانفتاح والحضارة وحريّة التعبير… هذا الخطر لا يقتصر على لبنان على فكرة، لكن هشاشة هذا البلد وتناقضاته أرضيّة خصبة مقلقة.
بعد اعترافات زياد عيتاني الذي كلّف على ما يبدو بـ «خلق تيّار يؤيّد التطبيع»، سنكون أكثر شراسة وارتياباً. غال غادوت جاءت متنكّرة بأزياء الفانتازيا الهوليوديّة، لتستدرجنا إلى القبول بصورة إسرائيل الايجابيّة، وهذا القبول هو حجر الأساس في المشروع الاستسلامي. لنحطّم أسطورة «المرأة الخارقة» إذاً، لنطرد غال غادوت من لبنان. المرأة الكرتون، لن تمرّ. وستخسر إسرائيل معركة التطبيع الثقافي، كما خسرت على جبهات القتال!