في أيّامٍ كهذه، لا بدّ أن بعض المحتجزين في «ريتز كارلتون» يفكّرون في الحكمة التي تختزنها سلوكيّات أهل المدن وتجّارها في بلادنا تاريخيّاً. من ينظر اليهم من الخارج، ومن ثقافة ريفيّة تعلي من شأن الكرم واستعراض الثروة، قد يعتبرهم بخلاء أو مغرقين في الماديّة: الكثير من العائلات في المدن التجارية في بلادنا تربّي أولادها على عدم إظهار الثروة أو التباهي بها، والايحاء دوماً بأنّك على حدّ الكفاف، ولا يجب أن يعرف أحد مقدار ثروتك الحقيقي باستثناء مدير المصرف، ولا تأخذ مخاطر في التجارة والاستثمار، مفضّلاً الربح المضمون الثابت على الخوض في الجديد؛ وأن يكون استهلاكك وانفاقك الظاهر لا يعكسان قدرتك المالية، بل يجب أن تعتاد على الشكوى باستمرار والإدّعاء الدائم بأنّك خارجٌ للتوّ من خسارة.
هذه العادات لم تأتِ من فراغ، بل هي عمليّة «تأقلم»، طوّرتها فئة اجتماعيّة عاشت قروناً وهي تحاول أن تحمي ثروتها (من دون أن تمتلك وسائل الحماية أو السلاح أو الثقافة الحربيّة اللازمة حتى تدافع عن نفسها). هذه ثقافة تاجرٍ تناسل لأجيالٍ وهو يخاف على نفسه وماله من الغزاة والحرب، ومن اللصوص، ومن البدو، ومن السّلطان وجابي الضرائب، ومن الفقراء، ومن الجميع؛ فخرج هذا النموذج، وهو الأصلح لعالمهم. أمّا من يصاب بالثراء وهو من خارج هذه الفئة، فيستعرض ماله على الفور، ويبني زعامةً ووجاهة وحاشية، ويقيم منزلاً يلفت الأنظار، فإنّ ثروته غالباً لا تعمّر حتى الجيل الثاني.
الهدف هنا هو أن نقول أنّ الكثير من نزلاء «ريتز كارلتون» يتمنّون اليوم لو أنّهم عاشوا وفق هذه القواعد، وراكموا ثرواتهم بصمت، وقلّلوا من أخذ الصّور وهم محاطين بسبائك الذهب، ولم يدخلوا القنوات الغربية الى قصورهم لتصوير تحقيقات عن يخوتهم وطائراتهم الخاصّة. وبالفعل، فإنّ التسريبات التي تخرج من المكان تقول إنّ المعتقلين الأكثر تحدّياً وثقةً هم اولئك الذين أخذوا احتياطاتهم منذ سنوات، ووزّعوا أرصدتهم على شركات وهمية وحسابات سرية في جزر الكايمان وقبرص؛ وهم يتصرّفون بما معناه أنّ ابن سلمان، طالما أنّه سلبهم سلطتهم، وسلبهم كرامتهم، فهو لن يسلبهم مالهم ــــ آخر ما تبقّى. في حالاتٍ كهذه، قد لا تنفع أساليب التحقيق «البسيطة»، وهو ما قد يفسّر الأخبار في «دايلي مايل» البريطانية عن تعذيب المعتقلين وضربهم، وتعليق الأمراء من أرجلهم رأساً على عقب لحملهم على عقد «تسوية»؛ أو في «نيويورك تايمز» التي تزعم (وفق طبيبٍ يعمل في مستشفىً مجاور) أن أكثر من 17 «نزيلاً» قد احتاجوا الى الرعاية الطبية بسبب الضرب والتعذيب.
هذه الأفعال، في الحقيقة، سوف تضعف من قضيّة الحكومة السعودية في المستقبل إن حاولت التحصّل على أملاكٍ وأرصدةٍ في الخارج يملكها هؤلاء، فقواعد حقوق الانسان ونزاهة القضاء أساسية حين تنظر محاكم بلدٍ في تنفيذ أحكامٍ صدرت في نظامٍ أجنبي (وقضيّة كلّ «معتقلي الريتز»، من هذه الزاوية، أصبحت «ملطّخة»). على الهامش: طريفٌ في تقرير «نيويورك تايمز» عن المعتقلين مساحة التبرير الذي تعطيه الصحيفة الأميركية للحكومة السعودية؛ إذ يقوم ممثّل للرياض بتقديم وجهة نظر حكومته على طول المقال، وتقدّم الصحيفة ــــ بكلّ جديّة ــــ نظريته عن أنّ الاعتقال الفجائي خارج القانون هكذا، والتفاوض «غير الرسمي» لاستخلاص أكبر قدرٍ من الأموال، قد يكون أصلح وأكثر «عملية» من توجيه اتهامات رسمية والسير في المحاكم (أي أن الصحيفة الأميركية تقدّم لقرائها، بلا نقدية، مرافعة عن فكرة الاعتقال خارج القانون، وتحصيل الأموال على طريقة آل كابون، بالضرب والتهديد. قارنوا ذلك بالتغطية التي تنالها أي عملية «تطهير» في الصين أو غيرها، حيث يحكم المراسل سلفاً بأنّ شعار مكافحة الفساد هو بالطبع كاذب، وأن ما يجري غير قانوني، وأن الرئيس يتخلص من أعدائه، الخ).

الأمير الصغير

في تحليل لأكاديمي سعودي يختصّ في شؤون آسيا (ولا يودّ ذكر اسمه هنا)، فإنّه لا مجال للمقارنة ــــ التي تحاول العديد من الوسائل الإعلامية أن تعقدها ــــ بين «الحملة ضد الفساد» التي يقودها الحكم السعودي حالياً وبين الحملة التي يشنّها النّظام في الصّين ضدّ نخبه منذ ما يقارب الخمس سنوات. في بيجينغ، انت لديك نموذج لتطهيرٍ تجريه قيادةٌ من داخل المؤسسة الحزبية: تعزل أفراداً ومسؤولين من مواقعهم، تستبدل أشخاصاً كونّوا من حولهم «مراكز قوى»، تضبط الباقين، تمنع سلوكيات معيّنة وتشجّع سلوكيّات أخرى، الخ. أمّا في الحالة السعودية، بحسب الباحث الذي يعرف النظامين جيّداً، فإنّ ما يجري ليس «إصلاحاً» أو «تطهيراً» للنخبة الموجودة بهدف الخروج بـ«حزب شيوعي» أو «مؤسسة ملكية» أكثر فعالية وانضباطاً وتعاوناً، بل إنّ ابن سلمان يقوم بعملية إعادة تشكيلٍ لكامل بنية الحكم في السعودية، وتقرير من يشكل جزءاً من النخبة الحاكمة ومن لا يدخل فيها (أو تحويل عملية «الحكم بالتشارك» بين أفراد العائلة، حيث لكلّ فرعٍ أو أمير «امارته الخاصة» ضمن الدولة، الى نظامٍ ملكي مركزي). بمعنى آخر، المقارنة لا تكون بعدد الاعتقالات أو مناصب من يجري «تطهيرهم»، بل هي تشبه لو أنّ جيبينغ قام بالغاء الحزب الشيوعي ولجانه واستبدلها بفريقٍ له وغيّر كامل الطريقة التي تُحكم بها الصّين.
في حالة حاكمٍ مثل محمّد بن سلمان، يحاول أن يخطّ ــــ وحده ــــ طريقاً جديداً للمملكة، فإنّ عوامل العمر والخبرة والتدريب لا يمكن تجاهلها وليست ثانوية. نحاول أنا ورفاقي منذ سنوات أن نخطّط نموذجاً ناجحاً لمزرعةٍ بسيطة ــــ مزرعة ــــ وبيننا ذوو خبرة واختصاص، وكلّما اقتربنا من التنفيذ العملي، نكتشف أموراً غفلنا عنها وهي كفيلة بإفشال كلّ شيء، أو مخاطر لم نحتسب لها، أو افراطاً في التفاؤل في الحسابات، فكيف حين تسلّم شاباً في أوائل الثلاثينيات بلداً، لينفّذ فيه أوّل خطّة تلمع في رأسه؟ والأمير هنا لا يملك حوله مؤسسات تقليدية تصنع القرار وتمحّص السياسات وترفد بالدراسات والمشورة، بل فريقاً عائلياً وشخصياً، ومستشارين أجانب من «ماكينزي» و«بوسطن غروب» (يصدف أني أعرف بعضهم، ولهذا لا أشعر بالثقة).
ولكنّ المسألة تذهب أبعد من ذلك، وهي لا تتعلّق بقدرات الأمير أو توزّع السلطة في السعودية أو غير ذلك. من الأخطاء التي يرتكبها من يحلّل سياسات «الاصلاح» في المملكة أنه يفترض أنّ ابن سلمان يختار ويصمم خططه من بين احتمالاتٍ مفتوحة وهو يقدر ــــ نظرياً ــــ على أخذ البلد في أيّ طريق يختاره. هذا رأي من لا يحتسب لسياسات الهيمنة وكيف تُدار الدول الصغرى. لاحظوا أن الصحافة الغربيّة تغطّي بتشجيعٍ أكثر مبادرات محمّد بن سلمان، بغض النظر عن واقعيّتها، فالنظرة العامة اليها هي أنها قد تسمح بإصلاح نظامٍ «صديق»، وهو شريكٌ مفيدٌ للشركات والمصالح الغربية، فهي تريد له أن يستمرّ ويزدهر وينفق أكثر. أكثر هذه الخطط، بطبيعتها، هي من النوع الذي تستفيد منه هذه المصالح ويشجّع عليها البنك الدولي: تخصيصٌ لمؤسسات عامّة يعني أرباحاً ورسوماً ضخمة تذهب للمصارف والقانونيين الذين يديرون الاستكتاب، فتح السوق السعودي لاستثمارات خارجية، أموال سعودية تذهب الى شركات غربية كبرى، تخفيض الدعم للفقراء والمواطنين والابقاء على شراء السلاح. من في الغرب سيمانع مثل هذه «الاصلاحات» (مهما كانت نتيجتها أو نجاعتها)؟
غير أنّ هناك احتمالات كثيرة لا يمكن لإبن سلمان، «بنيوياً»، أن يفكّر فيها. لا يمكننا أن نتخيّل عالماً يقرر فيه الأمير، مثلاً، أن يحدّ من الاستيراد ونزف عائدات النفط على الاستهلاك، والتقليل من شراء السيارات الأجنبية مثلاً ورفع الضرائب عليها (وقيمتها تقارب العشرين مليار دولار سنوياً)؛ أو إجبار الشركات الكبرى التي تريد أن تبيع في المملكة على بناء مصانع لها في البلد، أقلّه حتى تدفع ضرائب على أرباحها وتستثمر في الداخل (وهو ما تقدر على فعله دولٌ سوقها أصغر بكثير من سوق المملكة)، أو تقليص الميزانية العسكرية الهائلة وتجميد صفقات السلاح ــــ وهو كفيلٌ، وحده، بحلّ أكثر مشكلة الموازنة السعودية. هذه الاحتمالات التي «لا يتم طرقها» لأنها لا تناسب سردية «الحليف المفيد»، أو لأنها ستثير غضب واشنطن لو طبّقت، أو لأنها ببساطة خارج الإطار المعرفي الذي يرى المستشارون الغربيون من خلاله العالم، هي الحدود الحقيقية لسياسات محمّد بن سلمان، بغض النظر عن كفاءته وذكائه، وهي التي ستقرر مسار النظام السعودي ومصيره.

السعودية في لبنان

من العبث أن يتنبّأ أحدٌ بـ«سقوط» نظامٍ أو بتحديد موعدٍ لانهياره، فالتاريخ لا يعمل بهذه الطريقة. ولكن هناك مفاصل أساسية تواجه أي منظومة، من الممكن توقّعها والحكم بأن تغييراً ما سيحدث (وإن كان تحديد النتائج مستحيلاً). حين توقّع المخططون الأميركيون في السبعينيات، مثلاً، أن نظام الشاه لن يكون قادراً على الاستمرار في مساره القائم، فهذا ليس لأنهم «تنبأوا» بسقوط الشاه وبثورةٍ اسلاميّة، بل لأنّ الأرقام حدّثت عن أزمة بنيوية قادمة: أنت تملك قفّةً من المال، وتوزّعه بطريقةٍ معيّنة، هذا «الاقتصاد السياسي» لا يعود ممكناً حين تتغيّر الظروف، عليك امّا أن تزيد من مواردك أو أن تغيّر أولوياتك في الانفاق، وكلّ خيارٍ ستنتج عنه ردود فعل لا يمكن توقّع ابعادها. قد يستمرّ النظام السعودي ألف سنة ويتأقلم، ولكنّه يواجه حالياً أزمةً من هذا النّوع تفرض التغيير، وهو يملك ــــ لقيادة هذا التحوّل الخطير ــــ الأمير محمّد بن سلمان.الأمير، هنا، لم يعد وجهاً جديداً، بل أصبح لديه سجلّ وملفّات من الممكن تقييمه بناء عليها: سوريا، العراق، اليمن، قطر، الاقتصاد السعودي و ــــ أخيراً ــــ لبنان (والمشترك بين هذه الملفّات جميعها ليس النّجاح).
ونحن نراقب معسكر الرياض وهو يتخبط وينزف من سلطته وشرعيته في لبنان، والرياض تفجّر «تيار المستقبل» ــــ هي تعاقب رجالها وتذلّهم وهم يحاربون بعضهم بعضا ــــ هناك أمران لا يجب أن ننساهما. الأوّل هو أنّ الأحداث لا تزال في بدايتها، والرياض ما زال في يدها الكثير من الأدوات، وهي تطمح، بأي وسيلة، لأن نصبح جميعاً البحرين والأردن (البلدان الوحيدان في الاقليم اللذان ينالان رضى السياسة السعودية حالياً). الموضوع الثاني هو أنّك حين تجد خيارات السعودية تضعف في لبنان وخارجه، ورجالها يتمّ إذلالهم بطرقٍ لم يتخيّلها أعداؤهم لهم، فإنّ كل ذلك لم يحدث بسبب «قلة ذكاء» محمّد بن سلمان أو «سوء الادارة» السعودية (لا الملك فهد ولا عبد الله كانا نسخة عربية من كلاوسفيتز، ومع ذلك هيمنا على النظام العربي لعقود). نحن وشعوبنا من يهزم محمّد بن سلمان ويتحدّى عالمه؛ من يحارب بالوكالة قد تعب وأرهق واستنفد أدواته فيما من يقاتل بلحمه مباشرةً لم يتعب، ويستمرّ الى الآن وكأن المعركة لا تزال في بدايتها. انت حين ترى عدوّك تائهاً، متخبّطاً، ذليلاً، فإن ردّة الفعل لا يجب أن تكون محض الشماتة والسخرية؛ بل يفترض بك أن تتذكّر أن معارك خيضت، ومناضلين قاتلوا، وشهداء ارتقوا، ودماء سالت حتّى تراقب هذا المشهد الحاصل اليوم ــــ فاحتسب الفضل لأهله.