بالرغم من كل ما قيل سابقاً حول التفاوض مع دول خارجية للتخلص من النفايات الطبية ولا سيما الأدوية المنتهية الصلاحية، لا سيما تلك التي تراكمت خلال فترة الحرب الأهلية وما بعدها، لم تجد هذه المشكلة حلاً. والمعلوم أن الكثير من الدول والشركات والمؤسسات الدولية كانت قد تخلصت من هذه الأدوية قبل انتهاء صلاحيتها بقليل، تحت عنوان "إعانات طبية" و"مساعدات طبية"، لكي لا تتكلف على معالجتها، وأرسلتها الى البلدان النامية والتي تقع فيها حروب (كلبنان)... فتحولت إلى مشكلة تم تأجيل معالجتها مراراً.
كانت هذه الأدوية لا تزال في مستودعات وزارة الصحة أو المستشفيات الحكومية، أو في مستودعات تجار الأدوية... وقد بدأت تتلف وتصدر روائح كريهة، وربما مضرّة بالصحة العامة. وكان لا بدّ من إيجاد الحلول لهذه الادوية التي قدرت حجمها وزارة الصحة العامة بما يقارب 500 طن، بالإضافة الى تلك الأدوية المنتهية الصلاحية سنوياً والمقدرة بحوالى 150 طناً أيضاً. وكان وزير الصحة السابق وائل ابو فاعور قد أعلن اكثر من مرة عن اكتشاف مستودعات تتكدس فيها هذه الادوية... إلا أن السؤال كان يطرح دائماً هو كيف السبيل لمعالجتها بشكل آمن بيئياً وصحياً، كونها نفايات مصنفة "خطرة"، ووفق أية آلية قانونية وثابتة ودائمة؟

الترحيل أم الحرق

لطالما حكي عن إمكانية ترحيل هكذا نوع من النفايات لمعالجتها خارج لبنان، حسب اتفاقية بازل التي تحدد كيفية انتقال النفايات الخطرة بين الحدود ومعالجتها. ويبدو ان بعض الشركات رحلت كميات محددة. كما قيل ان نقابة مستوردي الأدوية وضعت آلية للتخلص من بعض الأدوية قبل انتهاء مدة صلاحيتها بقليل بالتعاون مع الصيدليات، ولم يتم تقييم هذه التجربة بعد. إلا أن مشكلة الأدوية الموجودة في مستودعات وزارة الصحة، في غالبيتها أتت كإعانات في الحرب ولا أحد يتحمل مسؤولية وكلفة توضيبها ونقلها ومعالجتها.
وبما أن لبنان لا يزال يفتقر للبنى التحتية المتخصصة في إدارة هكذا أنواع من النفايات، فكرت وزارة البيئة بالتعاون مع شركات الاسمنت، بإمكانية حرقها في محارقها. وقد تم توقيع اتفاقيات تفاهم بين إحدى هذه الشركات ووزارة البيئة وبإشراف مكتب التدقيق الفني (APAVE). وقد حصلت أول تجربة بحرق خمسة أطنان من هذه الأدوية في احد أفران الشركات عام 2012 بإشراف مكتب التدقيق، وقد تم أخذ عينات قبل وبعد هذه التجربة وأخذت العينات لفحصها... إلا أن ضجة كبيرة رافقت هذه العملية وتم التشكيك بالنتائج وبالعملية بأسرها وبحجم التجربة ونتائجها، وتم الاعتراض من البلدايات المجاورة للشركات. علماً أن وزارة البيئة آنذاك لم تنظر الى هذا الموضوع من ضمن اطار استراتيجي شامل، ولكنها اكتفت بالتشديد على بعض الشروط منها أن لا تحتوي هذه الأدوية (المعدة للحرق) على مادتي الكلور والزئبق وكذلك الأدوية لمعالجة السرطانيات (قرار وزير البيئة 58/1). وقد روجت إحدى شركات الاسمنت آنذاك أن عملية التخلص من الأدوية المنتهية الصلاحية في أفران شركات الإسمنت هي شائعة جداً عالمياً في أوروبا والولايات المتحدة الاميركية، حيث أن العديد من التقارير الدولية تشير إلى ان درجة حرارة الحرق في الأفران تصل الى حوالى 2000 درجة مئوية مما يكفل تفكك المواد العضوية وغير العضوية وكذلك المعادن الثقيلة واحتراقها بالكامل!

اتفاقية مؤقتة أم دائمة؟

أثناء تلك التجربة طرحنا بعض الأسئلة والاستفسارات كانت لا تزال بحاجة الى جواب. من هذه الأسئلة، هل هذه الاتفاقية للتخلص من هكذا أنواع من النفايات بعيدة المدى أم هي ظرفية للتخلص من الكميات الموجودة والمتراكمة فقط؟ وماذا تشمل غير الأدوية الطبية المنتهية الصلاحية؟ ولماذا لا يتم وضع استراتيجية شاملة لإدارة النفايات، يمكن ان تخصص فيها النفايات الخطرة والخاصة بمعالجات خاصة، بعد إجراء عمليات المسح والتصنيف الدقيقة للمحتويات والكميات والمكونات... الخ؟

تقدر الأدوية المنتهية الصلاحية سنوياً في لبنان بحوالى 150 طناً


في تلك الاثناء أكدت مصادر وزارة البيئة ان مذكرة التفاهم هي حول الأدوية المنتهية الصلاحية من أيام الحرب فقط وان الحل المستقبلي لن يكون في تعميم هذه التجربة أو إقرارها كآلية رسمية، بل الأفضل هو إيجاد آلية ضمن نقابة مستوردي الأدوية التي عليها ان تعيد الأدوية المنتهية الصلاحية الى المصدر، من دون ان تتكلف الدولة اللبنانية او اية جهة أخرى مسؤولية وكلفة المعالجة. وقد توقف الموضوع عند هذا الحد، ولم يتقدم أو يعاد بحثه إلا أمس مع توقيع مذكرة تفاهم جديدة حوله.

المذكرة والاتفاقية الجديدة

تم امس توقيع مذكرة تفاهم لوضع آلية تعاون من أجل تلف النفايات الدوائية في قبرص، بين وزارة الصحة العامة، ممثلة بنائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة العامة غسان حاصباني، ونقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات في لبنان، ممثلة برئيسها ارمان فارس، والشركة القبرصية Advance Medical Waste Management ، ممثلة بمديرها التنفيذي جورج فانتاروس، والشركة اللبنانية Solution، ممثلة بمديرها العام عبوّد زهر.
الغاية من مذكرة التفاهم هذه/ وضع إطار التعاون في مجال تلف النفايات الدوائية اللبنانية (أي الأدوية المنتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستعمال) في قبرص. والتي تنص على تصدير النفايات الدوائية الى قبرص وتلفها في معمل مختص لهذه الغاية وفقاً للشروط البيئية العالمية.

أسئلة حول الحل الجديد

حول الحل الجديد المعتمد، كان لا بد من طرح بعض الأسئلة: ما هو حجم الادوية المنتهية الصلاحية المتراكمة وتلك المنتجة سنوياً؟ ما هي الكلفة؟ ومن يتحملها؟
كيفية المعالجة في قبرص؟ من يراقب؟ ما هي الآلية للمراقبة والنقل وكيفية التأكد من سلامة العمليات المتوقعة؟ وما هي آلية الجمع من الصيدليات والمستوصفات والمستودعات والمراكز الطبية؟
من يراقب تلك الادوية التي تأتي بشكل هبات ولا تمر بأي آلية والتي في معظمها تكون على وشك انتهاء صلاحيتها؟
ما دور وزارة البيئة في الموضوع؟ وهل تخضع هذه العملية لمتطلبات اتفاقية بازل التي تعنى بنقل النفايات الخطرة عبر الحدود؟
وهل هناك من مشاريع قوانين لمعاقبة من لا يلتزم بهذه الآلية؟ وهل تم درس كل الخيارات البيئية والاقتصادية والصحية البديلة للمعالجة كمثل خيار الاسترداد، أي ان تتحمل شركات الادوية نفسها، بشكل مباشر، او عبر وكلائها، مسؤولية استردادها الى بلد المنشأ، بعد الاستخدام أو بعد انتهاء الصلاحية، بدل خيارات الترحيل أو الحرق أو النقل الى خارج الحدود؟




توضيحات غير كافية

حول هذه العملية الجديدة والمذكرة الجديدة، يؤكد عبود زهر في جوابه على أسئلة "الأخبار" حول المخاوف المطروحة، أن عملية نقل هذه المواد تخضع لمتطلبات اتفاقية بازل. مؤكداً أيضاً أنه يجب الحصول المسبق على موافقة وزارتي البيئة في لبنان وقبرص قبل الشروع بأي شحنة. أما حول مراقبة الأدوية التي تأتي بشكل هبات، فهي من مسؤولية وزارة الصحة، كما يقول. وحول الكلفة أو من يتحملها، يؤكد زهر أن كامل الكلفة يتحملها الوكيل أي المستورد وأن الدولة اللبنانية لا تدفع شيئاً. أما حول عملية النقل، فهي تتم، بحسب عبود، بموجب متطلبات الـ ADR و IMDG العالمية. وعملية التلف في قبرص تتم تحت إشراف وزارة البيئة هناك وبترخيص منها.