لم يعلن أحد الحرب على الآخر، ولم تتعرض الموارد المادية للنفط للخطر، ولكن ارتفعت رهانات الشركات الاستثمارية على ارتفاع أسعار الخام إلى مستويات قياسية. لم يكن للاضطرابات التي حصلت خلال الأشهر الماضية في دول أخرى مصدّرة للنفط مثل فنزويلا وليبيا ونيجيريا الأثر ذاته على المستثمرين.
ولكن بين «الانقلاب» الداخلي الذي نفذه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الأيام الماضية، والتهديدات بـ«قطع أذرع إيران» في المنطقة، من شأنها تحريك أنفس المستثمرين لينتشلوا أسعار النفط من خطاب العرض والطلب إلى عالم التخمين والمضاربات، حتى وإن استبعد الجميع أي إجراء عسكري على الإطلاق. بين السعودية وإيران، يتم إنتاج 14 مليون برميل نفط يومياً، أي أكثر من 40% من إنتاج «أوبك»، ما يعني أنه بغض النظر عن غياب أي تهديد على النفط وإنتاجه على نحو «مادي»، كون المنطقة كثيفة الإنتاج إلى هذا الحد، يجعل أي درجة من التردد وعدم اليقين حيال العرض في المستقبل من شأنه تعزيز الرغبة بالمضاربة على ارتفاع الأسعار.
تاريخياً، ليس هناك سلعة أخرى في العالم شهدت تقلبات في أسعارها، ووضعت الاقتصاديين والمختصين في مأزق في توقع تحركاتها في الأوقات الجوهرية كالنفط.

التهديدات «بقطع أذرع إيران»
من شأنها تحريك أنفس المستثمرين
يظهر روبرت بريتشر في كتابهThe Socioeconomic Theory of Finance كيف أنه منذ 1980 إلى اليوم شهدت أسعار النفط تقلبات تراوحت بين هبوط بنسبة 75% وصعود بنسبة 254%. في حين لم تتأرجح أسعار معظم السلع المبيعة في مؤسسات البيع بالتجزئة، والتي يفترض أنه يتم تحديد أسعارها حسب العرض والطلب، لا هبوطاً ولا صعوداً، سواء على مستوى اسمي أو معدل بحسب التضخم. يشير بريتشتر في كتابه إلى مستندات ومقالات ومقولات لخبراء وأكاديميين واقتصاديين وغيرهم نشرت قبل حدوث ثماني نقاط تحوّل جوهرية في سوق النفط أو بعدها بقليل يقوم السوق بدحضها بالكامل عبر أخذ طريق غير متوقع بتاتاً، ما يجعل التوافق بين حدث اضطراب سياسي يؤثر على توقعات المستثمرين، واقتراب مصدري النفط من الاتفاق على حد للإنتاج لرفع الأسعار صدفة بحيث كان بإمكان الحدث الأول وحده رفع الأسعار عبر المضاربات في الأسواق. كما أن هذا الارتفاع لن يؤثر على القرار الذي ستتخذه الدول المصدّرة للنفط خلال اجتماعها في 30 الشهر الحالي، كما أكّد وزير الطاقة السعودي خالد الفالح في حزيران الماضي بقوله إن خفض الإنتاج لا يستهدف سعراً محدداً للنفط، بل هدفه خفض المخزونات الزائدة.
إذاً، تظهر المؤشرات أن هذا الارتفاع الهائل في سعر النفط قد يعود بشكل أساسي إلى الاضطرابات السياسية، لا إلى انخفاض العرض أو إلى اتفاق مصدّري النفط على خفض الإنتاج. ولذلك، كما كانت الحال يوم انخفض الجنيه الاسترليني حين صوّت الشعب البريطاني للخروج من أوروبا، لا يمكن الاعتماد على هكذا مؤشرات لتحديد سياسات الدول أو مستقبلها الاقتصادي. ولكن اعتبر الخبير الاستراتيجي للنفط في «بلومبيرغ»، جوليان لي، أنه إذا اتضح أن الإجراءات والاعتقالات التي أقدم عليها ابن سلمان في الأيام الماضية لم تهدف إلى مجرد «محاربة الفساد»، بل إلى إخلاء الساحة ليحكم بنفسه، فإن ذلك سيؤثر سلباً على استعداد المستثمرين للمشاركة بالاكتتاب العام لشركة «أرامكو»، وخاصةً أن 95% منها ستبقى ملك دولة غير مستقرة تقدم على عملية «تنويع اقتصادي» ولبرلة، مع كل ما في ذلك من مخاطر ومصاعب في ظل صراع داخلي على السلطة، وتغييرات في تركيبة الحكم والمجتمع، وصراعات في المنطقة، منها حرب في الجوار.
في موازاة ذلك، لا يمكن نسيان دور الصين الصامت في الحفاظ على أسعار النفط ودعمها، بل يذهب البعض إلى القول بأنها تمسك بزمام مستقبل سعر النفط، وخاصةً أنها تبني مخزوناً استراتيجياً من النفط تصل التوقعات حيال حجمه إلى 678.9 مليون برميل. وتشير The Financial Times إلى أن أغلب ما تستورده الصين من الـ 8 ملايين برميل يومياً يذهب إلى مخزونها، محذّرةً أنه قد تمتلئ هذه الخزانات قريباً، ما سيخفض الأسعار بشكل هائل، ويعيث الفوضى في «أوبك»، وغالباً يعرّض مشاريع ابن سلمان لعقبات إضافية.