بعد مرور أسبوع على وضع الرئيس سعد الحريري في الإقامة الجبرية، تناقش الدولة اللبنانية جدياً خيار تدويل الأزمة مع السعودية، ونقل قضية حبيس السعودية اللبناني الى مجلس الأمن. وعلى الرئيس الحريري أن ينتظر أسبوعاً إضافياً على الاقل، قبل أن يطرق لبنان أبواب الامم المتحدة رسمياً، ويحزم أمره لمواجهة دبلوماسية مع السعودية، من دون أن تكون نتائجها محسومة سلفاً، سيما أنها مع خصم تمتد شبكة مصالحه الاقتصادية ونفوذه بقوة داخل الامم المتحدة، فضلاً عن أنها ستكون أول مواجهة عربية يخوضها لبنان في مجلس الامن.
مع ذلك، يبدو نقل هذه المواجهة ضرورياً الى الامم المتحدة، واتخاذها شاهداً على العدوان السعودي على لبنان، لوضع الاسرة الدولية أمام مسؤولياتها إذا ما ذهب محمد بن سلمان نحو خيارات إشعال الساحة اللبنانية، وهي مهمة ضرورية وستبقى أقل كلفة من البقاء هدفاً سهلاً للابتزاز السعودي اليومي، وتهديد السلم الاهلي اللبناني، شريطة أن تذهب أبعد من طرح قضية الحريري، التي لن تكون كافية لردع السعوديين، رغم كونها أولوية راهنة، إذ لا بد من طلب مناقشة العدوان السعودي على لبنان، كما ينعكس يومياً في تصريحات المسؤولين السعوديين، وفي تقارير الاجهزة الامنية اللبنانية عن الانشطة المحمومة للشبكات السعودية لإشعال الحرب الاهلية في لبنان.

ابراهيم موفداً لعون في باريس: رسالة الى ماكرون ولقاء مع ايمييه


وقد يكون وصل الى مسامع حبيس ولي عهد الرياض ما قاله الرئيس ميشال عون لسفراء مجموعة دعم لبنان في مجلس الامن، خلال لقائه إياهم أمس في قصر بعبدا، من أن لبنان سيتريث أسبوعاً إضافياً، أملاً بأن يعود الرئيس الحريري الى موطنه، قبل أن يحزم أمره ويتوجه الى المجتمع الدولي، من دون استبعاد التقدم بشكوى أمام مجلس الامن بقوله إن كل الخيارات باتت متاحة.
وتلوح فرصة البحث الاولى بقضية الحريري في مجلس الامن، في التاسع والعشرين من هذا الشهر، خلال اجتماع المجلس الدوري لدرس التقرير الفصلي للامين العام المتحدة بشأن القرار 1701، إذا لم يبادر لبنان قبل ذلك الموعد الى طرح قضيته. وليس من المنتظر أن تطرح قضية الحريري في العرض الذي سيقدمه جيفري فيلتمان مساعد الامين العام للشؤون السياسية، لأن التقرير جرى إعداده قبل احتجاز الحريري، ولكن بوسع الأمين العام إجراء تعديلات عليه وتضمينه التطورات الاخيرة. ويملك لبنان خيارات تدريجية لفتح النار الدبلوماسية على السعودية، تبدأ بإيداع مجلس الأمن رسالة بقضية الحريري والتهديدات السعودية للبنان، مروراً بإعلامه بما يجري، وصولاً الى طرح شكوى ضد السعودية في مجلس الامن. ومن المتاح أن يتخذ الفرنسيون في مجلس الامن المبادرة، من دون لبنان، لإشرافهم داخل المجلس على الملف اللبناني، وهو يتطلب المزيد من المشاورات لكي تتولى فرنسا المبادرة، وهو ما يمنح الطلب قوة دفع إضافية.
وبعد أسبوع من احتجاز الحريري، بات لبنان يملك بعض الاوراق للتقدم نحو مواجهة دبلوماسية دولية مع السعودية، بصرف النظر عن نتائجها، والقطيعة مع الانتظار الذي يمنح المزيد من الوقت للاتصالات التي تجريها السعودية في الداخل اللبناني لنقل المواجهة الى الشارع وإحداث خرق أمني في قلب شبه الإجماع اللبناني، الذي يقوده رئيس الجمهورية ميشال عون.
كذلك فإن إنضاج التفكير بالقرار تطلب تبلور اقتناع واضح، محلياً وفرنسياً وأميركياً وروسياً وأممياً، وهذا مهم، بأن رئيس الوزراء اللبناني لم يستقل من منصبه بملء إرادته، وأن بقاءه في الرياض ليس قرار رجل حر، وأن السعودية أحدثت سابقة خطيرة في العلاقات الدولية لاحتجازها رئيس وزراء دولة ذات سيادة، وباتت تحرّض علناً على إشعال حرب أهلية في لبنان.
فرنسياً، يقترب أهل الحكم هناك من تبنّي القراءة اللبنانية الرسمية لقضية الحريري، والتهديدات السعودية للبنان، عبر ثلاث محطات متتالية؛ في المحطة الاولى، أبلغ السفير الفرنسي في الرياض، فرانسوا غويات، وزارة الخارجية الفرنسية، بعد لقائه الحريري في مكان احتجازه في منزله في الرياض أول من أمس، أن الحريري كان يتصرف «كالروبوت» خلال اللقاء، وأنه كان لقاءً عادياً جداً، لم يتطرق خلاله الحريري الى قضيته، وكان لقاءً سريعاً جداً عزز الانطباع بأن الرجل لم يكن حراً في التعبير عن موقفه.
المحطة الثانية كانت في لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولي العهد محمد بن سلمان أول من أمس. وقالت مصادر في الإليزيه إن الرئيس الفرنسي لمس خلافاً كبيراً مع محادثه السعودي حول لبنان، وإنكاراً لأي تقييد لحرية رئيس الوزراء اللبناني، وقال ماكرون بعد اللقاء إنه حاول إعادة مقاربة عقلانية للموقف من دون نتيجة.
أما المحطة الثالثة، فتمثلت في تولي المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم نقل رسالة شفهية من عون الى ماكرون، خلال زيارة خاطفة قام بها أمس الى باريس. وعلمت «الأخبار» أن إبراهيم اجتمع بمدير المخابرات الخارجية (السفير السابق في بيروت) برنار إيمييه، ونقل اليه فحوى الرسالة، والتي تظهر استمرار لبنان باعتماد لهجة هادئة، ولكن حازمة، في مقاربة قضية الحريري، إذ طلب عون من نظيره الفرنسي التحرك لكي يسمح للرئيس الحريري بالانتقال الى بيروت. وقال في الرسالة الشفهية إنه مصمّم على انتظار كل الوقت اللازم، وعدم قبول استقالة الحريري مهما طال الوقت، وسيظل يرفضها طالما أنه لم يأت الى بيروت لتقديمها. وقال عون إن فرنسا بلد ديمقراطي، وينبغي أن تتفهّم موقف لبنان.
وفي المعلومات عن اللقاء بين إبراهيم وإيمييه، أن الاخير أكد أن الرسالة ستصل الى الرئيس ماكرون سريعاً جداً، وأن فرنسا ستقوم بدورها لمساعدة لبنان في هذه القضية، وهي ليست قلقة. ويلتقي الفرنسيون مع شبه إجماع لبناني على استبعاد أي عدوان خارجي. كذلك أبلغ المسؤول الفرنسي زائره اللبناني بأن فرنسا قلقة على الوضع الداخلي في لبنان، سائلاً ضيفه اللبناني عن احتمالات الانفجار الأمني. وردّ إبراهيم بأن الاستقرار الامني والسياسي متين، وأن الرئاسة اللبنانية تحظى بالتفاف في معالجتها لقضية الحريري. وكان المسؤولون الفرنسيون مستمعين أكثر منهم محاورين خلال اللقاء، مدركين حساسية الوضع القائم في لبنان، ومتوقعين تحركاً غربياً لدعم تجاهه.
وكانت الزيارة الأمنية اللبنانية قد أسهمت في تصويب الموقف الفرنسي، بعدما قال وزير الخارجية جان إيف لودريان، ظهر أمس، إن المعلومات «تشير الى حرية الحريري في الحركة». وعرض إبراهيم المعطيات اللبنانية عمّا يتعرض له الرئيس الحريري من احتجاز ومن تقييد لحركته، ما أدى الى صدور بيان من الخارجية الفرنسية «تتمنى فيه كما قال الوزير أن يتمتع الرئيس الحريري بحرية كاملة، كي يؤدي دوره الأساسي والضروي في لبنان». وتفيد المعلومات بأن عائلة الرئيس الحريري تجري اتصالات مع الادارة والمسؤولين في فرنسا، مع رهان كبير على دور فرنسي في الايام المقبلة، لإيجاد مخرج لرئيس الوزراء المحتجز.
أميركياً، أعاد وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون ــ بخلاف البيت الابيض والرئيس دونالد ترامب ــ بسط مظلة حماية فوق «شريك أميركا اللبناني القوي» المحتجز في الرياض. وامتد التباين داخل الادارة الاميركية حول ملفات الشرق الاوسط، والاتفاق النووي الايراني، وروسيا، الى الملف اللبناني؛ فبعد التغريدة الرئاسية الاميركية التي محضت تأييدها الانقلاب الذي يقوده محمد بن سلمان، تحت راية محاربة الفساد، أعاد تيلرسون ساعة الموقف الاميركي الى الوراء، واستخلاص القضية الحريرية من طيّات الانقلاب الداخلي، وفصلها عن الصفقة التي عقدها صهر الرئيس جاريد كوشنر مع ابن سلمان بإطلاق يده في السعودية. وقال تيلرسون: «نؤيد استقلال لبنان، وندعم الحريري كشريك قوي، ونحثّ الاطراف كافة داخل لبنان وخارجه على احترام استقلاله ومؤسساته الشرعية، وان الولايات المتحدة تدعم الاستقرار في لبنان وتعارض أي عمل من شأنه تهديد الاستقرار». وهي رسالة واضحة لتحييد الساحة اللبنانية، من دون أن تكون كافية في ظل الخلافات داخل الادارة الاميركية إزاء ما يجري في السعودية.
ولاستكمال المنصة التي يمكن البناء عليها لإطلاق مبادرة لبنانية في الامم المتحدة، تأتي تصريحات أمينها العام أنطونيو غوتييريش أمس، لتسهم في تعزيز هذه المبادرة في حال قرر لبنان الإقدام عليها، اذ عبّر الامين العام عن رفضه هو أيضاً الإقرار بالأمر الواقع السعودي. وهو وصف قبل أيام استقالة الرئيس الحريري بـ«عرض الاستقالة»، ليعود أمس ويقول: «إنه أمر يثير القلق البالغ بالنسبة لنا. ما نريده هو أن يتم الحفاظ على السلام في لبنان. من الضروري ألا تندلع أي صراعات جديدة في المنطقة، لأن ذلك قد يؤدي إلى عواقب مدمرة. وفي الوقت نفسه من المهم الحفاظ على وحدة لبنان واستقراره وعمل المؤسسات اللبنانية».